هل يُلبي قانون “نوبك” الأهداف الأميركية أم يُزيد التقلبات بأسواق الطاقة؟

 

عبر خطوة أثارت حفيظة الإدارة الأميركية مطلع الشهر الجاري، قررت أوبك+ خفض الإنتاج النفطي بنحو مليوني برميل يومياً.

وبعد القرار الأخير لـ أوبك+، أعلن البيت الأبيض أن إدارة بايدن ستتشاور مع الكونغرس حول الأدوات والسلطات الإضافية لخفض سيطرة أوبك على أسعار الطاقة.

ووصف بايدن القرار بأنه غير ضروري، فيما صرحت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأن القرار يضر بالاقتصاد العالمي.

كما فتح القرار باب التكهنات أمام خطوات عديدة قد تلجأ إليها إدارة جو بايدن وفي مقدمتها ورقة “نوبك”، وهو تشريع يمنح القضاء الأميركي الحق في النظر في دعاوى مكافحة الاحتكار ضد منتجي أوبك والحلفاء.

وكانت اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ مررت بالفعل مشروع القانون في مطلع مايو أيار الماضي، ويستهدف ما وُصف بحماية الشركات والمستهلكين في أميركا من ارتفاع أسعار الخام.

وجاءت تلك الخطوة بعد سنوات من الإخفاق في كل مرة تحاول فيها الولايات المتحدة الخروج بهذا القانون إلى النور.

كيف سيعمل قانون نوبك؟

من شأن التشريع أن يسهم في تعديل قانون مكافحة الاحتكار الأميركي لإلغاء ما وصف بـ “الحصانة السيادية” التي تحمي أوبك والحلفاء وشركات النفط الوطنية بالدول الأعضاء من الدعاوى القضائية.

ولذلك فإنه في حالة تمرير القانون، سيحصل المدعي العام الأميركي على خيار مقاضاة التكتل أو أعضائه في محكمة فدرالية.

ورغم ذلك، فإنه من غير الواضح بالضبط كيف يمكن لمحكمة فدرالية أن تنفذ قرارات قضائية لمكافحة الاحتكار ضد دول أجنبية.

كما أن مشروع القانون لا بد له أن يجتاز كل من مجلس الشيوخ والنواب بكامل هيئته، ثم تمريره إلى الرئيس ليصبح قانوناً.

وأشارت ClearView Energy Partners إلى أن “نوبك” في حالة تقديمه إلى مجلس الشيوخ سيحصل على عدد الأصوات التي يحتاجها وهي 60 صوتاً.

لماذا فشلت المحاولات السابقة لتمرير القانون؟

المحاولات السابقة لتمرير “نوبك” باءت بالفشل وسط مقاومة من قبل مؤسسات للصناعات النفطية، بما في ذلك معهد البترول الأميركي.

وكان معهد البترول الأميركي يرى أن القانون قد يضر بمنتجي النفط والغاز في أميركا.

ووفقاً لتصريحات مايك سومرز الرئيس التنفيذي لمعهد البترول الأميركي، فإن “نوبك” سيخلق المزيد من عدم الاستقرار في السوق، كما سيفاقم التحديات الحالية في التجارة الدولية.

وأضاف: مثل هذا التشريع لن يكون مفيداً في أي ظروف سوقية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.

ومن ضمن المخاوف أن القانون قد يؤدي في النهاية إلى إفراط في الإنتاج من جانب أوبك، مما يخفض الأسعار.

ما الذي تغير الآن؟

لكن ما تغير هذا العام هو الغضب المتصاعد داخل الكونغرس بسبب زياد أسعار البنزين التي دفعت التضخم في أميركا لأعلى مستوى في عقود.

كما أن قرار أوبك+ الأخير بزيادة الإنتاج بأكبر وتيرة منذ بداية جائحة كورونا أسهم في زيادة هذا الغضب.

وصرح تشارلز شومر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي بأن مشروع القانون هو من بين الأدوات التشريعية التي يتم النظر إليها رداً على قرار أوبك+ الأخير.

تداعيات القانون قد تتجاوز أسواق النفط

هناك مخاوف من أن تتجاوز تداعيات القانون سوق النفط، وتمتد إلى أسواق أخرى.

وصرح بعض المحللين بأن نوبك قد يدفع بعض الدول لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد الولايات المتحدة بسبب حجب الإنتاج الزراعي لدعم الزراعة المحلية.

كما أن دول أوبك قد ترد بطرق أخرى، إذ هددت السعودية في 2019 ببيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار في حالة تمرير القانون، وهي خطوة ستتسبب في تقويض مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسة في العالم وتقلل من نفوذ واشنطن.

وتشير تكهنات أخرى إلى أن السعودية قد تتجه لشراء بعض الأسلحة من دول أخرى غير أميركا مما يضرب تجارة مربحة لمتعاقدي الدفاع الأمريكيين.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمملكة ومنتجي النفط الآخرين تقييد الاستثمارات الأميركية في بلدانهم أو رفع أسعار النفط المباع إلى أميركا، وذلك في وقت تواجه في الولايات المتحدة وحلفاؤها تحديات كبيرة في تأمين إمدادات طاقة موثوقة خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

البنوك اللبنانيّة … الإغلاق “تلتين” المراجل

في الأيام المنصرمة، وجدنا لبنان يتحوّل إلى مسرحٍ «روبن هوديّ»، إذ دخل بعض المواطنين إلى مصارف عدّة ومناطق متنوّعة، وتحت التهديد، من أجل الحصول على مدّخراتهم الّتي حُجز عليها منذ ثلاث سنوات من دون حقّ ولا قانون واضح. هكذا، ولّدت هذه التصرّفات ردّات فعل مختلفة، فقسّمت الشارع بين المواطن صاحب الحقّ من جهة، والسلطة والمصارف ومدَّعي الحفاظ على الأمن من جهة أُخرى. بالطبع، تبقى خلفيّة الحياة المعيشيّة البائسة هي محرّك هؤلاء المواطنين للإقدام على مثل هذه التصرّفات، لدى وصولهم إلى مفترق طُرق، يختارون فيه بين موت أحد أحبّائهم، أو موتهم وتعرّضهم لخطر الملاحقة القانونيّة والسجن.

 

لن نخوض في تحليل هذه السيناريوهات الأمنيّة-المصرفيّة. فالمراقب للوضع اللبنانيّ لن يتفاجأ بما يحصل الآن، لا بل قد يستغرب طول أناة المواطن الّذي صبر ثلاث سنوات، خصوصًا أنّ المحاولات جاءت فرديّة، لا جماعيّة. كذلك، لن يستغرب استقواء السلطة على شريحة مستضعفة من الشعب، فإزاء تضاعف هذه الحوادث، اتّخذ وزير الداخليّة الإجراءات الأمنيّة اللازمة، فأوقف أغلبهم، كي يُخلى بعدها سبيلهم مقابل كفالة ماليّة. كما دعت جمعية مصارف لبنان إلى اجتماع طارئ وأصدرت قرارًا بإغلاق عامّ ومفتوح لجميع الفروع، مع الإبقاء على منصّة صيرفة الّتي تستهدف في تعاملها أصحاب رؤوس الأموال، من دون الاكتراث لعامّة الشعب الّذي يعتمد على سحب فُتات مدّخراته، ليؤمِّن قوته اليوميّ «إن كفاه ذلك». من جهتها، أعربت جمعيّة المودعين اللبنانيّين عن دعمها لمرتكبي هذه «الانتهاكات الأمنيّة»، فاعتبرتهم في حكم من يواجه الظلم.

 

هكذا، بِتنا نتابع مسلسل قد طالت حلقاته، أبطاله المودعون والمصرفيّون، وقضيّة كلّ جهة تتلخّص في الحفاظ على الحقوق، وفي هذه الحبكة المعقّدة، نرى المودعين يطالبون بحقّهم في دولة هي الأولى عربيًّا في إنشائها نظامًا قانونيًّا لحماية مدّخرات المواطن، والدولة نفسها تلوِّح بإمكانيّة اللجوء إلى أموالهم لاحتواء أزمتها الماليّة، بالاتّفاق مع المصارف…!!! ولا تنسى هذه الحكومة التعهِّد للبنك الدوليّ «بالسير قدمًا بكلّ الاصلاحات الضروريّة للخروج من محنتنا»، كما لم تغفل عن تذكير الأصدقاء الدوليّين والدول العربيّة الشقيقة خصوصًا، كما جرت العادة في كلّ أزمة.

 

وفي ظلّ هذه الكوميديا الساخرة، لا ننسى الكومبارس الثانويّين، الّذين يملؤون المشاهد بحضورهم، لكن لا أحد يكترث بانسحابهم أو اختفائهم على حساب «ربّ العمل»، ونعني هنا موظّفي البنوك، الّذين يعانون إلى جانب الفرق اللوجستيّة والأمنيّة للمصارف «الأمرّين»، ويجدون أنفسهم خاسرين في كلّ السيناريوهات المطروحة.

 

في هذه الظروف، ثمّة من يُغلق الستار أمام حقيقة لا يراها كثيرون… والسؤال المطروح، لماذا الآن؟ ألم يلجأ كثيرون إلى دعاوى قانونيّة، وخصوصًا أصحاب الجنسيّات الأجنبيّة لاستحصال أموالهم؟ ولماذا تتعنّت المصارف برفض إعطاء بعض آلاف الدولارات للمواطنين في ظروف إنسانيّة مُحِقّة؟ ثمّة «قطبة» لا يفهمها أحد!

 

إنّ السلطات اللبنانيّة أهدرت، وفق البنك الدوليّ، ودائع المدَّخرين على مدار الثلاثين عامًا الماضية من خلال مخطّط «بونزي»، كما يرجّح كثيرون. أي عبر عمليّة احتيال كبيرة تقوم على مكافأة المستثمرين الحاليّين بأموال يجلبها المودعون الجدد، سبق أن استفاد منها الفاعلون السياسيّون والاقتصاديّون الرئيسيّون على حساب الأسر اللبنانيّة، الّتي بدورها تندّد بـ «الكساد المتعمّد». ففي آخر زيارة لوفد صندوق النقد الدوليّ الأسبوع المنصرم، ندّد الأخير ببطء تنفيذ الإصلاحات المتّفق عليها، وأكّد البيان الصادر عنه على الخطوط الحمر: «حماية المودعين الصغار، والاعتراف بخسائر القطاع المصرفيّ، وعدم الاعتماد على عائدات الدولة المستقبليّة لسدّ تلك الخسائر».

 

كما نعلم، فقد تسبّبت الأزمة الّتي يمرّ فيها لبنان في أضرار لا يمكن إصلاحها على الأرجح في القطاع المصرفيّ الّذي نجا من آثار الحرب الأهليّة (1975-1990). فمنذ تشرين الأوّل 2019، رأينا البنوك اللبنانيّة الّتي يقارب عددها الـ 60، قد خفّضت بالفعل نطاق خدماتها، ولم تعد تمنح القروض، وحَدَّت من وصول عملائها إلى ودائعهم بالعملات الأجنبيّة، وتمّ «تجميدها» بقيود غير القانونيّة وضعت منذ بداية الأزمة، وجعلت من شبه الاستحالة فتح حساباتٍ جديدة، من دون الحاجة إلى أن نذكّر بأنّ معظم البطاقات الائتمانيّة لم تعُد صالحة للاستخدام الدوليّ، وهي محدودة بمبالغ سحب يوميّة وشهريّة على نطاقٍ داخليّ. كما أنّ التمييز، الّذي أكّده مصرف لبنان، بين الدولارات «الفريش» (نقدًا أو محوَّلة من الخارج) والدولار «اللبنانيّ» (اللولار المحجوز في البنوك) هو أحد أبرز سمات هذا الانهيار الذي يتنكّر في صورة إجراءات وقائيّة لمنع انهيار «صديق الشعب»، المصرف اللبنانيّ.

 

وبعد أن قاطعها جزء كبير من اللبنانيّين منذ العام 2019 وتعرّضت لهجمات متزايدة في الساحات القضائيّة، تواجه البنوك الآن موعدًا نهائيًا جديدًا حاسمًا، وقد ينتهي بضربة قاضية تُعلن رسميًّا إفلاسها، ونقصد هنا مواجهتها لمجموعة العمل الماليّ (FATF-GAFI)، الّتي تقوم حاليًّا بتقييم درجة امتثال القطاع المصرفيّ اللبنانيّ للمعايير العالميّة، بما في ذلك مكافحة تبييض الأموال.

 

فهذه المجموعة تأسّست في العام 1989، وتضمّ 199 دولة، وتتمثّل مهمّتها في تحديد إجراءات «مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، فضلًا عن تمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل». ووفقًا لشروط المنظّمة، نراها تصنّف البلدان في ثلاث قوائم اعتمادًا على درجة امتثالها لتوصياتها: قائمة البلدان الممتثلة للقوانين، والقائمة الرماديّة (تحت المراقبة)، والقائمة السوداء (المعرَّضة للحظر وغير المتعاونة). حتّى الآن، توجد دولتان فقط في الفئة الأخيرة، هي كوريا الشماليّة وإيران.

 

يعود آخر تحديث للقائمة الرماديّة إلى شهر كانون الثاني 2022، وتشمل 23 دولة، بما في ذلك 7 دول من المنطقة: الأردن، والمغرب، وجنوب السودان، وسوريا، وتركيا، والإمارات العربيّة المتّحدة، واليمن. دولة أوروبيّة واحدة فقط، هي ألبانيا، مدرجة في هذه القائمة. فهل ينجو لبنان من الانضمام إلى القائمة الرماديّة مرّة ثانية، وبذلك يفقد الأمل الأخير في الحفاظ على قطاعه المصرفيّ؟ وكيف يهرب من تلك الضربة المؤلمة؟

 

يمكن القول إنّ لبنان «لديه سوابق»: فقبل العام 2002، تمّ وضع لبنان على القائمة الرماديّة، كما شارف وضعه على القائمة السوداء، ممّا دفع حينها مجلس النوّاب في العام نفسه إلى تمرير القانون رقم 318 لمكافحة تبييض الأموال، وتلاه إنشاء هيئة التحقيق الخاصّة، وهي هيئة مستقلّة «من حيث المبدأ»، ولكن يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة «إلى هذه اللحظة». وبذلك، يمكن للهيئة رفع السرّيّة المصرفيّة المعمول بها منذ العام 1956 في عدد من القضايا الّتي تمّ توسيعها بموجب القانون رقم 44 للعام 2015، بما في ذلك الفساد، واستغلال النفوذ، والاختلاس، والتهرّب الضريبيّ، والإثراء غير المشروع… لكن، هل من نوايا عند أصحاب القرار للكشف عن المستور؟

 

حينها، أدّى تمرير هذا القانون إلى إبقاء لبنان على قائمة البلدان الملتزمة في العام 2017. وفي تقييمها الأخير، وضعت مجموعة العمل الماليّ لبنانَ على قائمة البلدان الممتثلة، بينما أشارت إلى بعض المجالات الّتي تحتاج إلى التحسين، مثل توسيع نطاق الجرائم لتشمل تزييف المنتجات، واللصوصيّة، والاتّجار غير المشروع بالسلع المسروقة. لكن، هيهات أن ينجو لبنان بحكوماته ومصارفه من هذه الإجراءات، فما أشبه اليوم بالأمس، يوم انتفض الشارع على السلطة، فأطبقت المصارف على «أنفاس» المواطن، وأغلقت أبوابها، متذرّعة بقانون «الكابيتال كونترول»، قانونًا لم يُبصر النور بعد. واليوم، قد تكون أحداث الإغلاق والاضرابات، الحلقة الأخيرة قبل إعلان «البطل» إفلاسه، فيجد الشعب نفسه كمن يُلاطم الريح، بعد أن لاذ وفاز المصرف، فهو الّذي «ضرب» وهو الّذي «هرب».

 

إنّ هذا الهرب، هو هربٌ مطلق، من المواطن، ومن الموظّف العامل، ومن المسؤوليّة، ومن المحاسبة، ومن الحفاظ على صورة لبنان «الوجهة المصرفيّة الآمنة» في الشرق. إذ كان من المفترض أن يتمّ تقييم مجموعة العمل الماليّ للوضع اللبنانيّ مجدّدًا في العام 2020، لكن تمّ تأجيله رسميًّا لمدّة عام بناءً على طلب السلطات اللبنانيّة بسبب جائحة كورونا. كما تمّ منح تأجيل جديد في العام 2021، بسبب الظروف الاستثنائيّة للبلاد: الأزمة الاقتصاديّة، وخصوصًا إدارة الأضرار الناجمة عن كارثة مرفأ بيروت في 4 آب 2020. فهل يبتكر الهارب وسيلة تشويش أُخرى، قد تكون بابتداع خصم وهميّ، هو المواطن نفسه، كي يُمهل أصحاب النفوذ «نفسًا آخر؟».

بالطبع، سيكون من الصعب على لبنان أن يبقى في فئة البلدان «الخالية من العيوب»، ومع ذلك ثمّة ثلاثة سيناريوهات محتملة: فإمّا أن يتمّ الاحتفاظ بلبنان في قائمة البلدان الممتثلة للقوانين، وفي هذه الحالة سنسمع أبواق المصارف الإعلاميّة تتبجّح بنزاهة البنوك، وأنّها تعافت من طعنة الصديق في الظهر، «ويالله نرجع نحطّ أيد بأيد»، لأنّ الأموال ليس لها قيمة بين «الحبايب».

أو يتمّ وضع لبنان في القائمة الرماديّة مجدّدًا، مع تصنيفه كدولة متعاونة، ثم تقدّم فرقة العمل المعنيّة بالإجراءات الماليّة قائمة بالالتزامات الّتي يجب الوفاء بها ضمن جدول زمنيّ لا يمكن تجاوزه، وهنا سنسمع أبواقًا تندّد بالمؤامرة الدوليّة الكونيّة على لبنان ومصارفه لصالح «نظام مصرفيّ جديد»، أو أنّها تنسج كعادتها على منوال «متل ما قدرنا… رح منقدَر»، أيّ أنّ القيادة الحكيمة الّتي أخرجت لبنان من القائمة الرماديّة سابقًا، هي قادرة على إعادته إلى المنطقة «النظيفة» بحنكتها المعهودة.

أمّا السيناريو الأسوأ، فهو إدراج لبنان في القائمة الرماديّة، ولكن تصنيفه كدولة غير متعاونة، وبالتالي يقترب من القائمة السوداء، وللحكَم الحُكم النهائيّ… علمًا أنّه قبل العام 2019، كانت وكالات التصنيف الأميركيّة الكبرى قد منحت لبنان تصنيف (B-). لكن مع التخلّف عن سداد الحكومة ديونها بالعملات الأجنبيّة في آذار 2020، تمّ تهميش لبنان تلقائيًّا في النظام المصرفيّ التجاريّ الدوليّ، وكأنّه غير موجود.

أخيرًا، ولطمأنة الشعب «المنهوب»، نجد أنّه وإن تمّ تخفيض التصنيف الائتمانيّ للبنان، لا ينبغي أن تكون العواقب وخيمة للغاية في الوقت الحاليّ واقعيًّا، لأنّ البنوك المراسلة لن تتوقّف تلقائيًّا عن التعامل مع نظيرتها اللبنانيّة، لكن هذا التصنيف يرفع المؤشّرات السلبيّة بوجهٍ كبير. علاوة على ذلك، تأخذ البنوك المراسلة في عين الاعتبار التصنيف السياديّ للدولة… فهل يحافظ لبنان على ما بقي له من سيادة؟ أم يُطيح بها هي الأُخرى كرمى عيون من يتحيّنون سقوطه؟ علمًا، أنّه إذا لم تُغيّر البنوك اللبنانيّة السياسات المتّبعة، وتنفيذ القوانين المتعلّقة بمكافحة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، فقد يتعرّض لبنان لخطر العقوبات الأميركيّة «كفانا الله من شرّها». من دون أن ننسى أنّه في حال ضعف الملاءة الماليّة، ستواجه جميعها خطر استبعادها من شبكة «سويفت» العالميّة للعمليّات الماليّة والمصرفيّة، وعندها يمكن المصارف أن تقول: «على الدنيا السلام».

وإلى حين إعادة فتح أبوابها (خلف الأسوار الحديديّة)، نطرح السؤال على المصارف اللبنانيّة: هل ما زالت قادرة على الامتثال للمعايير المصرفيّة المنسَّقة دوليًّا الّتي حددّتها اتّفاقيّات «بازل 3»، مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة؟ وبشكل أكثر تحديدًا: هل يمكن الكشف عن نسب رؤوس أموالها، وملاءتها الماليّة؟ إلى حين تُكشَف الحقائق، ستبقى المصارف بحكم العاملة ولو شكليًّا، فالحالة تقول: «المفلس مليء حتّى يُثبت إفلاسه». أم أنّ الاغلاق «تلتين المراجل».

البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ

بروفيسور في جامعة القديس يوسف

الإتفاق على عدم الاتفاق

أصبح اليوم واقعاً وواضحاً، أنّ كل الجهات السياسية والأحزاب بدأت تُهيّئ محرّكاتها ومعدّاتها واستراتيجياتها للفراغ الرئاسي المتوقّع والمنظّم، والذي سيحصل بعد أسابيع عدة. لكن المضحك المبكي، أنّه بعد الجلسة التشريعية الأخيرة والمسرحية الجارية، كان واضحاً ويُمكن قراءته بين السطور، أنّ كل الجهات المعنية إتفقت من وراء الستار على عدم الاتفاق. وبدأ العدّ العكسي، ليس لعهد جديد لكن لفراغ رئاسي جديد.

بعد الجلسة الإنتخابية الأولى، كان واضحاً أنّ المعارضة منقسمة، وكانت الأكثرية الواضحة والساحقة لمن جمع وأقنع 63 صوتاً ورقة بيضاء، هذا يعني أنّ الساحر نفسه إذا جمع صوتين إضافيين يُمكن أن يفرض الرئيس العتيد للجمهورية، حيثما يشاء.

 

نذكّر وبفخر، أننا بلد دستوري وديموقراطي، وهذا يعني أنّ «الديموقراطية التوافقية»، هي تناقض لن يُطبّق، بمعنى آخر لا يجوز الإتفاق بين الـ 128 نائباً لإدارة البلاد واختيار الشخصيات المناسبة للمناصب.

 

كما كان واضحاً أيضاً، أنّ كل الجهات السياسية إتفقت في هذه الجلسة الشهيرة على تمرير العديد من الاتفاقات المالية والنقدية والاقتصادية، لأنّ الكل يعلم أنّه خلال الأشهر المقبلة، لا يُمكن مناقشة أو إقرار أي مشروع إقتصادي واجتماعي، وستكون الأولوية المطلقة للسياسة.

 

في السياق نفسه، الإتفاق الذي حصل حول الموازنة، كان اتفاقاً سياسياً بامتياز، وليس فيه أي نكهة مالية ولا نقدية، ولا رؤية ولا استراتيجية واضحة. حتى أنّ وزير المال المعني الأول بهذا المشروع، لم يستطع أن يُقدّمه بالتفاصيل، ولم يجد آذاناً صاغية للاستماع إلى مشروعه، لأنّ الكل كان يتلقّى التعليمات للتصويت على هذا المشروع المدمّر، وطُويت هذه الصفحة التقنية للتركيز على أولوياتهم والصفحات السياسية.

 

من ثم رُشق من السماء (باراشوت) قرار سعر الصرف الرسمي الجديد 15 ألف ليرة للدولار الواحد، بعد نحو 30 عاماً، كبالون تجريبي، سياسي بعيداً من التشريع المالي والنقدي، ومنفصل عن الموازنة.

 

من الآن وصاعداً، كل الجلسات التشريعية، ستُركّز على موضوع الرئاسة، وسيتركون اللبنانيين يتخبّطون بين بعضهم البعض، لتأمين لقمة العيش، ويتركون الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، يزداد يوماً بعد يوم، من دون أي مسؤولية أو قلق.

 

في السياق عينه، لقد وُضعت في الجوارير بقية الإصلاحات المرجوة، مثل «الكابيتال كونترول»، و»خطة التعافي»، وبقيت فقط الشعارات الوهمية، لحماية ما تبقّى من أموال المودعين، بينما في الحقيقة يُتابع إستنزافُها يومياً لما تبقّى منها.

 

فالشق الأول من الجلسة التشريعية، ومناقشة الموضوع الاقتصادي وخصوصاً إقرار الموازنة، كانت فقط لـ (رفع العتب) بغية إرضاء بعض متطلبات صندوق النقد الدولي شكلياً، واختبار بعض الخطط، وإلهاء الشعب مرة أخرى، بينما يُركّزون على مصالحهم وأولوياتهم السياسية.

 

إنّه لواضح، أن ليس هناك جدّية وإرادة حقيقية لأي خطة إنقاذية، لكن ما نشهده اليوم هو قرارات عشوائية وتوافقية ورضائية بعيدة عن خطة متكاملة، متجانسة ومتماسكة، لمواجهة أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ العالم. فالسياسيون في كوكب الاستحقاقات والخلافات والتحالفات السياسية للمرحلة المقبلة، والاقتصاد والشعب في كوكب الذل والعذاب والإنهيار.

د. فؤاد زمكحل

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات