على امتداد العام الماضي، ساد افتراض ـ جرى التعبير عنه بعض الأحيان صراحة، وفي أغلب الأحوال ضمناً ـ وشكل هذا أساس تفكيرنا جميعاً إزاء الجائحة: مفاده بأنه عند نقطة ما، ستتلاشى الجائحة، وحينها «سنعود إلى حياتنا الطبيعية».
الحقيقة أن هذا الأساس خاطئ بدرجة تكاد تكون مؤكدة، ذلك أن فيروس «سارس ـ كوف ـ 2»، بما يتسم به من مراوغة، ربما يصبح عدونا الأزلي، تماماً مثل الإنفلونزا لكن على نحو أسوأ. وحتى إذا تلاشى هذا الفيروس نهاية المطاف، فإن حياتنا وروتين أعمالنا بحلول ذلك الوقت ستكون قد تبدلت على نحو يتعذر التراجع عنه. وعليه، فإن «العودة للوراء» لن تكون خياراً ممكناً حينها، وإنما سيكون السبيل الوحيد المضي قدماً ـ لكن نحو ماذا تحديداً؟
في الواقع، تتلاشى غالبية الأوبئة بمجرد أن يحقق السكان مناعة القطيع، ولا يجد العامل الممرض أمامه سوى القليل للغاية من الأجساد كمضيف له من أجل تكاثره الذاتي. وتتحقق مناعة القطيع هذه من خلال مزيج من المناعة الطبيعية داخل الأشخاص الذين تعافوا من العدوى واللقاح فيما يخص باقي السكان.
إلا أنه في حالة «سارس ـ كوف ـ 2»، توحي التطورات الأخيرة أننا ربما لا نصل لمناعة القطيع أبداً، بل وحتى الولايات المتحدة التي تقود غالبية الدول الأخرى بمجال اللقاحات، وشهدت موجات تفش ضخمة للوباء بالفعل، ربما لا تصل لهذه النقطة. ويعد هذا الأمر النتيجة الأساسية التي خلص إليها تحليل عقده كريستوفر موراي من جامعة واشنطن، وبيتر بيوت من مدرسة لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة.
ويكمن السبب الرئيسي وراء ذلك في الظهور المستمر لسلالات جديدة تتصرف وكأنها فيروسات جديدة تماماً. وكشفت تجربة سريرية جرت في جنوب أفريقيا أن الأشخاص في مجموعة «البلاسيبو»، أو الدواء الوهمي، ممن سبقت لهم الإصابة بإحدى سلالات فيروس كورونا المستجد لم تكن لديهم أي مناعة، في مواجهة السلالة الجديدة المتحورة وأصيبوا بالعدوى من جديد.
ووردت تقارير مشابهة من أجزاء من البرازيل التي شهدت موجات هائلة من تفشي الوباء، وبالتالي عانت من تجدد الجائحة وقتاً بعد آخر.
وعليه، يصبح اللقاح السبيل الوحيد أمامنا للمضي قدماً نحو إنجاز مناعة قطيع دائمة. ويقتضي الإنصاف الإقرار بأن بعض اللقاحات الموجودة اليوم أبدت فاعلية إلى حد ما في مواجهة بعض السلالات الجديدة. ومع هذا، فإنه بمرور الوقت ستصبح اللقاحات بلا حول ولا قوة في مواجهة الطفرات الجديدة المقبلة.
بطبيعة الحال، تعمل الجهات المنتجة للقاحات بالفعل بدأب على إنتاج لقاحات جديدة. بصورة خاصة، يمكن تحديث اللقاحات المعتمدة على التكنولوجيا الثورية المتمثلة في تلقيح الحامض النووي الريبوزي المرسال التي سبق وأن وصفتها، على نحو أسرع عن أي لقاح آخر في التاريخ. ومع ذلك، تبقى هناك حاجة لإنتاج المصل وشحنه وتوزيعه وحقن الأفراد به.
ولا يمكننا إنجاز هذه العملية بسرعة كافية، ولا أن تغطي الكوكب بسرعة كافية. ومع أن البعض منا ربما يفلح في الفوز بجولة إقليمية أو جولتين في مواجهة الفيروس، من خلال توزيع اللقاح على سكان منطقة بعينها ـ مثلما فعلت إسرائيل، على سبيل المثال، فإن التطور لا يأبه بالمكان الذي يعمل فيه، ويعمد الفيروس إلى التكاثر في أي مكان يجد فيه أجساداً دافئة لم تحصل على اللقاح بها خلايا تمكنه من إعادة إنتاج الحامض النووي الريبوزي الخاص به. ومع خلق الفيروس لنسخ من نفسه، يقع من وقت لآخر في أخطاء تشفيرية. وتتحول بعض هذه الأخطاء إلى فرص للتحول إلى مزيد من الطفرات.
وتظهر مثل هذه الطفرات في كل مكان، وثمة قدر كبير من الانتقال للفيروس جارٍ من حولنا. واكتسبت سلالة بريطانية وأخرى جنوب أفريقية وواحدة برازيلية على الأقل سمعة واسعة سيئة بطبيعة الحال، لكنني اطلعت على تقارير حول ظهور سلالات أخرى في كاليفورنيا وأوريغون وغيرهما. وإذا تفحصنا عينات من عدد أكبر من المناطق، من المحتمل أن نعثر على المزيد من السلالات.
وعليه، ينبغي لنا افتراض أن الفيروس يتحور بسرعة كبيرة بالفعل، داخل الكثير من الدول الفقيرة التي لم تتلق حتى يومنا هذا أي جرعات لقاحات على الإطلاق، حتى وإن مكنتها البنى الهرمية السكانية التي يغلب عليها الشباب لديها في إبقاء معدلات الوفيات قيد السيطرة، الأمر الذي يغطي بدوره على حدة موجات تفشي الجائحة على المستويات المحلية.
الشهر الماضي، حرص أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، على تذكير العالم بأن 75 في المائة من جميع جرعات اللقاحات جرى توزيعها داخل 10 دول فقط، بينما لم تحصل 130 دولة ولو على جرعة واحدة.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن مسألة تطور عامل ممرض في حد ذاتها ليست بالأمر المثير للدهشة أو القلق، ذلك أنه من بين الأنماط المعتادة تطور الفيروسات بمرور الوقت على نحو يجعلها أشد عدوى، لكن أقل ضراوة. وعلى أي حال، فإن عدم الإجهاز على الكائن المضيف بفاعلية يحمل في طياته ميزة في إطار الانتخاب الطبيعي. وإذا اتخذ «سارس ـ كوف ـ 2» هذا المسار، فإنه ربما يتحول نهاية الأمر إلى مجرد إنفلونزا عادية أخرى.
بيد أن هذا ليس ما يجري على أرض الواقع خلال الفترة الأخيرة، ذلك أن السلالات التي اكتشفناها أصبحت أشد عدوى، لكن قدرتها على الفتك لم تتضاءل. ومن المنظور الوبائي، تعد هذه أخباراً سيئة.
ولننظر الآن في مسارين بديلين لتطور الفيروس. في واحد منهما، يصبح الفيروس أقل فتكاً، لكن أكثر قدرة على الانتقال من شخص لآخر، الأمر الذي سيسبب مزيداً من حالات الإصابة والوفاة، لكن سيصبح النمو طولياً. في المسار الآخر البديل، لن يصبح الفيروس المتحور أقل أو أكثر ضراوة، لكنه يصبح أشد عدوى. وسيتسبب في زيادات في أعداد المصابين والوفيات على نحو متسارع، وليس طولياً.
ويشرح آدم كوشارسكي، من مدرسة لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة، الجانب الحسابي وراء هذا الأمر. إذا كان هذا المسار التطوري لـ«سارس ـ كوف ـ 2»، فإن هذا يعني أننا في طريقنا على ما يبدو لمواجهة دورات لا نهاية لها من موجات التفشي والانحسار، وفرض قيود اجتماعية وتخفيفها وفرض عمليات إغلاق ورفعها. وداخل الدول الغنية على الأقل، من المحتمل أن نحصل على اللقاح مرتين سنوياً، في مواجهة أحدث الطفرات السائدة، لكننا لن نحصل أبداً على اللقاح بدرجة كافية من السرعة أو الشمولية تعين على الوصول لمناعة القطيع.
وما أود تأكيده هنا أنني لا أدعو إلى الانهزامية. الحقيقة أنه في الإطار التاريخي الكبير، يظل فيروس «كوفيد ـ 19» بمثابة جائحة معتدلة نسبياً. جدير بالذكر هنا أن الجدري قتل تسعة من بين كل 10 من أبناء الهنود الحمر، بعدما نقله الإسبان إلى الأميركتين في القرن الـ16. كما فتك «الموت الأسود» بقرابة نصف سكان حوض البحر المتوسط، عندما ضرب أوروبا للمرة الأولى في القرن السادس.
عالمياً، قتل فيروس كورونا المستجد أقل عن أربعة من كل 10 آلاف شخص حتى الآن. وبالاعتماد على العلم والتكنولوجيا، نبدو مسلحين اليوم على نحو لم يحظ به أسلافنا من قبل قط.
ومع ذلك، يجب علينا التحلي بالواقعية، فالصلابة تستدعي أن نضم هذا السيناريو الجديد إلى خططنا. أما النبأ السار هنا فهو أن مستوى استجابتنا في تحسن مستمر. على سبيل المثال، في كل موجة إغلاق، نتسبب في أضرار أقل بالاقتصاد عن الموجة السابقة. وربما ننجح في تحقيق إنجازات علمية كبرى تجعل حياتنا أفضل نهاية الأمر. ورغم أن عالمنا الجديد ليس بائساً، فإنه لن يشبه على الإطلاق عالمنا القديم.
اندرياس كلوث.