2040… عالم أشد تنافسية

عادة ما أبدت وكالات الاستخبارات الأميركية قدرتها على التنبؤ بالكوارث على امتداد الأعوام العشرين الماضية. وبهذه الطريقة، كانت تجد هذه الوكالات سبيلاً للهروب من اللوم عن هذه الكوارث. وفي 8 أبريل (نيسان)، صدر تقرير عن مجلس الاستخبارات الوطني بعنوان «2040… عالم أشد تنافسية»، شدد على المخاطر الناجمة عن صعود الصين، ويحذر من مخاطر تواجه الاستقرار العالمي جراء التغييرات المناخية، وكذلك انتشار التكنولوجيا.
ويعتمد التقرير على معلومات من وكالات استخباراتية، بجانب معلومات عامة، ويتفحص سيناريوهات مستقبلية للعام 2040.
جدير بالذكر أن مجلس الاستخبارات الوطني يصدر تقريراً كل 4 سنوات، ومن المهم هنا أن نتذكر أن التقرير الصادر عن المجلس عام 2004 توقع حدوث جائحة عالمية تضر بالاقتصاد العالمي. ومن الممكن الاطلاع على التقرير الجديد بسهولة عبر الإنترنت.
من ناحية أخرى، وفيما يخص التقرير، يبدو من السهل استيعاب محتوياته المتعلقة بقضايا الأمن الدولي التقليدية. ومثلما الحال مع كل تقرير آخر يصدر في واشنطن في الوقت الحالي، يسلط التقرير الضوء على المنافسة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جانب والصين على الجانب الآخر.
إلا أنه تبعاً لما يذكره هذا التقرير الجديد، فإنه لا تكفي دراسة القوة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة والصين، من أجل إدراك حجم قوتهما المستقبلية، ذلك أن القدرة على تطوير تكنولوجيات وشبكات جديدة ومراكز تبادل، بما في ذلك تبادل الأموال والمعلومات، وكذلك القدرة على السيطرة على المعلومات ستكون جميعها حيوية في تحديد قوة الدول المتنافسة.
على سبيل المثال، هل ستسيطر الصين على شبكات الجيل الخامس ذات الأهمية الكبيرة، وتتمكن من وقف إرسال المعلومات إلى الدول المنافسة أو الشركات التابعة لها؟
من جهته، يتوقع التقرير ألا تأتي المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على نمط مشابه لما كانت عليه المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أثناء «الحرب الباردة» في القرن الماضي. اليوم، يملك عدد أكبر من الدول قوة ونفوذاً، مثل الهند وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان، إضافة إلى أنه ستكون هناك دول إقليمية قادرة على إحداث خلل بالاستقرار العالمي مثل إيران وكوريا الشمالية.
علاوة على ذلك، فإن هناك قدراً أكبر الآن من التجارة الحرة بين البلاد المختلفة، الأمر الذي يعزز الاستقرار. ومع ذلك، تسببت جائحة فيروس «كورونا» المستجد في إحداث خلل في التجارة والسفر، وسيكون هناك مزيد من الأوبئة مستقبلاً.
ويحذر التقرير أيضاً من ظهور تكنولوجيات عسكرية جديدة، في ظل غياب قوانين دولية تحظر استخدامها. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، اتفقت الدول العظمى على حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، من خلال إبرام معاهدة دولية بهذا المعنى عام 1925 وأخرى عام 1993.
وتبعاً لما أفاده التقرير، هناك أهداف اقتصادية جديدة وأخرى تتعلق بالبنية التحتية اليوم، لكن في ظل غياب قوانين وقواعد دولية جديدة حاكمة. وستزداد صعوبة ردع هجمات من عينة الهجمات السيبرية ضد منشآت بنية تحتية اقتصادية أو صحية أو هجمات ضد أقمار صناعية، مع احتدام المنافسة بين الدول.
ويتفحص الجزء الأكبر من التقرير التغييرات الطارئة على البيئات والتكنولوجيا والتوقعات طويلة الأمد التي تثير القلق. وطبقاً للتقرير، فإن ارتفاع درجات الحرارة حول العالم سيؤثر على جميع الدول بدرجة أكبر. كما سترتفع مستويات مياه البحار، وستعاني المناطق التي تعاني قلة الأمطار حول العالم من جفاف أكبر.
وسيتسبب نقص الماء والطعام في حدوث مزيد من الهجرات عبر الحدود. ويمكننا أن نرى هذا الأمر في أميركا الوسطى؛ حيث ترحل الأسر من مناطق زراعية، مخلفة وراءها مزارع خربة في محاولة لدخول الولايات المتحدة.
في الوقت ذاته، يشير التقرير إلى أن ارتفاع درجات الحرارة سيساعد الزراعة في عدد قليل من الدول مثل كندا. ويتوقع التقرير أن تتحمل دول نامية المعاناة الكبرى من وراء التغييرات المناخية والمنافسة على المياه، الأمر الذي سيخلق مخاطر اشتعال صراعات، مثلما نشهد في سد النهضة الإثيوبي، وربما يشتعل مزيد من الصراعات، ويقع مزيد من القلاقل خلال الأعوام العشرين المقبلة.
ويشرح التقرير كيف أن التكنولوجيا تمثل حلاً ومشكلة في الوقت ذاته فيما يخص التحديات الاقتصادية والمناخية. وتشجع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي الناس على الانضمام لمجموعات تتشارك في نفس التفكير. وعليه، أصبح هناك حوار أقل بين وجهات النظر المختلفة ومزيد من الاستقطاب السياسي والتطرف، مثلما نرى في الولايات المتحدة وأوروبا. ومع الاستقطاب تتراجع الثقة في الحكومات.
إلى جانب ذلك، فإنّ دولاً على غرار الولايات المتحدة، إلى أوروبا، إلى الصين، إلى اليابان، بحاجة إلى مزيد من الموارد لرعاية مزيد ومزيد من المواطنين من كبار السن. وربما تؤدي المخاطر الناجمة عن التغييرات المناخية أمام الاقتصادات ودخول الأسر، إلى الاستقطاب السياسي والتطرف، حتى اشتعال صراعات عنيفة داخل الدول، وفيما بينها، تبعاً لما ذكره التقرير.
في الوقت ذاته، فإن تكنولوجيات جديدة مثل الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية يمكن أن تزيد الإنتاجية الاقتصادية التي باستطاعتها توفير الموارد اللازمة للرعاية الصحية والنقل والزراعة والتعليم.
وأفاد التقرير أن المجتمعات والدول الناجحة ستتمكن من بناء إجماع اجتماعي حول إجراءات إدارة التكنولوجيا والتعامل مع التغييرات المناخية. وتكشف الجدالات الدائرة اليوم داخل الولايات المتحدة حول اللقاحات وجوازات السفر المرتبطة بالتطعيم، نمط التحديات التي يتوقع التقرير أن تصبح أكثر شيوعاً.
كما أن تزايد الابتكار التكنولوجي لإدارة التغييرات المناخية وجهود مواجهة الأوبئة سيعتمد على قدرة الولايات المتحدة والصين على إيجاد سبل للتعايش، بل التعاون، حسبما بيَّن التقرير.

روبرت فورد.

مصير الودائع بين غريزة البقاء والوقت الضائع

 

رغم قساوة الظروف التي يمرّ فيها القطاع المالي، ورغم المصير شبه المشترك بين مصرف لبنان والمصارف، إلّا انّ غريزة البقاء تُخفي معاناة كبيرة بين الطرفين، فيما يساهم الوقت الضائع في «تحسين» دفاتر المركزي، وخفض فرص إنقاذ الودائع.

حوالى 50 يوماً مضت على انتهاء مهلة تنفيد التعميم 154، وهي فترة كافية لكي تكون اللجنة المكلّفة تسلّم ملفات المصارف قد كوّنت فكرة اولية عن أوضاع القطاع، وان تكون عملية الفرز أحرزت تقدماً، بحيث أصبح واضحاً من هي المصارف التي نجحت في تنفيذ مندرجات التعميم بالكامل، ومن هي المصارف التي نفذت التعميم جزئياً، ومن هي المصارف العاجزة عن الالتزام بالبندين الاساسيين في التعميم، وهما رفع الرأسمال بنسبة 20%، وتأمين ودائع في حساباتها في المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجموع ودائعها الدولارية.

حتى الآن، هناك تكتّم تام في شأن الخطوط العريضة للنتائج التي عاينها مصرف لبنان. ولا يبدو من المؤشرات المتوافرة وجود نية لفتح هذا الملف قريباً، لأسباب متعددة من أهمها:

أولاً- انّ قدرات مصرف لبنان المادية والمعنوية لا تسمح حالياً بأن يأخذ على عاتقه أي مصرف عاجز عن تلبية شروط إعادة الهيكلة.

ثانياً- انّ التوقيت غير مناسب لفتح الملف على مصراعيه، لأنّ ورشة من هذا الحجم يُستسحن ان تتمّ بالتزامن مع تغيير المشهد العام في البلد، اي بالتماهي مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على خطة إنقاذ.

ثالثاً- المصارف التي سيُحكم عليها بأنّها عاجزة عن الاستمرار، لا حاجة الى كشفها منذ الآن، ما دامت «الوظيفة» التي يضطلع بها المصرف حالياً بسيطة ويمكن ان تستمر، حتى لو كان المصرف بحكم المفلس مع وقف التنفيذ.

رابعاً- لا توجد مصارف كبيرة «مرتاحة» وقادرة على تولّي انقاذ مصارف صغيرة متعثرة كما كان يحصل في السابق.

خامساً- هناك تجاذبات غير مُعلنة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية تنطلق من مبدأ حرب البقاء (survivor war). هذه المواجهة تقوم على مبدأ المنافسة على تنظيف الدفاتر وتحسين الحسابات تمهيداً ليوم «الحساب».

في هذا السياق، يمكن القول انّ المركزي والمصارف، ورغم قناعتهما بأنّهما على مركب واحد، الّا انّ كل طرف منهما يحاول ان يضمن بقاءه، وهذا ما يبرّر أحياناً عمليات التجاذب. ويبدو انّ مصرف لبنان، وبوجود فجوة كبيرة في حساباته، وهو الذي يعتبر انّ هذه الفجوة في دفتر الموجودات والمطلوبات لا يمكن تفسيرها على أنّها خسائر، يحاول ان يضيّق هذه الفجوة مع ضمان عدم وقوعه في مطب التوقّف عن الدفع، كما فعلت الحكومة اللبنانية في آذار 2020. لكن ما هو واضح، انّ تضييق الفجوة في دفاتر المركزي، والاستمرار في الدفع، يؤدّيان عملياً، ومنذ العام 2018، الى زيادة الضغوطات على القطاع المصرفي، والى نقل قسم من فجوة المركزي الى المصارف بسبب الخسائر التي قد تتراكم تباعاً، نتيجة اجراءات البقاء التي اعتمدها مصرف لبنان لتحسين دفاتره.

وبما أنّ مصرف لبنان يُمسك بالدولارات، ويُمسك كذلك بسوق القطع والتحويلات، وبما انّه يعتبر انّه ساهم بسياسته في تأمين ازدهار وأرباح القطاع المصرفي طوال السنوات التي سبقت انفجار الأزمة في العام 2019، فإنّه يفرض اجراءات اليوم تسمح له بضمان الاستمرارية وربما تضييق الفجوة المالية، مقابل تكبير خسائر المصارف التي ستُظهر نتائجها المالية نمواً كبيراً في خسائرها في العام 2020، وستكون الخسائر اكبر بكثير في العام 2021. ذلك انّ مصرف لبنان بات يشطب من ايداعات المصارف لديه، لتلبية حاجات هذه المصارف الى السيولة بالليرة، او حاجتها الى انجاز عمليات خارجية بالدولار. وبهذه الطريقة، ينجح المركزي في خفض الفوائد التي يدفعها الى المصارف مقابل ايداعاتها لديه، والتي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار.

من هنا، من المستبعد ان يلجأ مصرف لبنان، في المدى المنظور، وطالما انّ الحكومة لم تتشكّل، ولم تبدأ مفاوضات الإنقاذ مع صندوق النقد، الى حسم موضوع إعادة هيكلة المصارف، وسيبقى هذا الملف مُجمّداً، وسيواصل المركزي في هذا الوقت الضائع عملية تحسين دفاتره، لكن المفارقة هنا انّه كلما طالت فترة الوقت الضائع، وكلما ردم مصرف لبنان الفجوة، كلما زاد حجم الفجوة في المصارف، بما يعني انّ المودع قد يدفع في النتيجة من حقوقه ثمن الوقت المهدور، والمسؤولة عنه السلطة السياسية دون سواها.

انطوان فرح.