كفاءة توزيع اللقاح وتنشيط الاستثمار

تناول تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية 2021» التطورات الاقتصادية الدولية؛ إذ أشار إلى أنه من المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 4 في المائة عام 2021، بافتراض أن التوزيع الأولي للقاحات وباء «كوفيد19» سيصبح واسع الانتشار خلال عام 2021؛ إذ يؤكد البنك الدولي أن التعافي سيكون ضعيفاً على الأرجح؛ ما لم يتحرك صانعو السياسات بقوة لكبح جماح الجائحة وتطبيق إصلاحات لتعزيز الاستثمار والتجارة بوصف ذلك محركاً للنمو والفرص كما كانت من قبل ولفترة طويلة والمتغيرات الاقتصادية الكلية الأخرى.
ورغم أن الاقتصاد العالمي ينمو مجدداً في 2021، فإن الجائحة تسببت في خسائر فادحة من الوفيات والإصابات، ودفعت بالملايين نحو الفقر، وتقلص النشاط الاقتصادي والدخل لفترة طويلة. وتتمثل قمة الأولويات على صعيد السياسات في الأمد القريب، في السيطرة على انتشار الفيروس وضمان سرعة وعدالة توزيع اللقاحات على نطاق واسع. ومن أجل دعم التعافي الاقتصادي، ستحتاج الدول أيضاً إلى تنشيط الاستثمار الذي يهدف إلى نمو أقل اعتماداً على سياسة الدين الحكومي؛ إذ يواجه صانعو السياسات تحديات في الصحة العامة؛ وفي المقدمة عدم الكفاءة والعدالة في توزيع اللقاحات، وإدارة الدين، وسياسات الموازنة، وأنشطة البنوك المركزية والإصلاحات الهيكلية، في الوقت الذي يسعون فيه لضمان أن يكتسب هذا التعافي العالمي؛ الذي ما زال ضعيفاً، قوة دفع ويرسي الأساس لنمو قوي. ومن أجل التغلب على تأثيرات الجائحة ومكافحة العوامل التي تؤثر على مناخ الاستثمار، هناك ضرورة ملحة لتحسين بيئة الأعمال، وزيادة مرونة أسواق العمل والمنتجات، وتعزيز الشفافية والحوكمة.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن انهيار النشاط الاقتصادي العالمي في 2020 كان أقل شدة مما كان متوقعاً، وذلك لأسباب؛ على رأسها الانكماش الأقل حدة في الاقتصادات المتقدمة والتعافي الأكثر قوة في الصين. في المقابل، فإن تراجع النشاط في معظم اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية كان أكثر تأثيراً مما كان متوقعاً؛ إذ هناك حاجة لمعالجة الهشاشة المالية في كثير من تلك الدول، ويبين التقرير أن التوقعات ما زالت تتسم بارتفاع حالة عدم اليقين، وأن اختلاف نتائج النمو يظل محتملاً؛ إذ يشير سيناريو سوء الأوضاع، الذي ينطوي على استمرار ارتفاع الإصابات والتأخر في توزيع اللقاحات، إلى احتمال تقييد النمو العالمي عند 1.6 في المائة خلال 2021. في الوقت ذاته، يشير سيناريو تحسُن الأوضاع، الذي ينطوي على النجاح في السيطرة على الجائحة وتسارع عملية توزيع اللقاحات، إلى أن النمو العالمي قد تتسارع وتيرته بمعدل يصل إلى 5 في المائة، وفقاً للبنك الدولي.
وفي الاقتصادات المتقدمة، تعثر الانتعاش في الربع الثالث من عام 2020 عقب ارتفاع الإصابات، مما يشير إلى بطء التعافي ومواجهة كثير من التحديات. ومن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 3.5 في المائة خلال 2021، بعد انكماشه بمعدل 3.6 في المائة خلال 2020. وفي منطقة اليورو 3.6 في المائة، بعد انخفاضه بمقدار 7.4 في المائة خلال 2020. ومن المتوقع أن ينمو النشاط في اليابان، التي شهدت انكماشاً بنسبة 5.3 في المائة خلال عام 2020، بمعدل 2.5 في المائة خلال 2021. وتوقع البنك الدولي أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، بمعدل 5 في المائة خلال 2021، بعد انكماشه 2.6 في المائة عام 2020. بينما يتوقع أن ينمو الاقتصاد الصيني 7.9 في المائة بعد تسجيل معدل نمو يصل إلى اثنين في المائة. وباستثناء الصين، من المتوقع أن تنمو اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية بنسبة 3.4 في المائة خلال 2021، بعد انكماشها بنسبة 5 في المائة خلال 2020.
ويستعرض تقرير «الآفاق الاقتصادية العالمية» الكيفية التي فاقمت بها الجائحة المخاطر المحيطة بتراكم الديون؛ والكيفية التي قد تكبح بها النمو على المدى الطويل في ظل غياب جهود الإصلاح المنسقة، وما المخاطر المرتبطة باستخدام برامج شراء الأصول بوصفها أداة للسياسة النقدية في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية. لقد زادت الجائحة على نحو كبير من مخاطر الديون في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية؛ وستؤدي آفاق النمو الضعيف إلى زيادة أعباء الديون وتآكل قدرة المقترضين على خدمة أعباء الديون. ويحتاج المجتمع الدولي للتحرك سريعاً، وأن يضمن ألا ينتهي تراكم الديون بسلسلة من أزمات الدين. ولعله من المتوقع أن تخلف الجائحة آثاراً معاكسة مستمرة على النشاط العالمي، وتؤدي إلى تفاقم التباطؤ في النمو العالمي مستقبلاً بسبب نقص الاستثمار، وانخفاض التوظيف، وتراجع القوى العاملة في كثير من الاقتصادات المتقدمة، ما لم ينفذ صانعو السياسات إصلاحات شاملة تحسن المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي المنصف والمستدام.
ويحتاج صانعو السياسات إلى مواصلة الحفاظ على التعافي، والتحول تدريجياً من دعم الدخل إلى سياسات تعزيز النمو. وفي الأمد الأطول، في اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية، ستساهم السياسات الهادفة إلى تحسين الخدمات الصحية والتعليمية، والبنية التحتية الرقمية، والقدرة على الصمود في وجه تغير المناخ، وممارسات الشركات والحوكمة، في تخفيف الضرر الاقتصادي الناجم عن الجائحة، والحد من الفقر وتعزيز الرخاء المشترك. وفي حال الضعف في مراكز المالية العامة وارتفاع الدين، فإن الإصلاحات المؤسسية التي تستهدف تحفيز النمو الذاتي تكتسب أهمية خاصة. وتستخدم البنوك المركزية في بعض اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية برامج شراء الأصول استجابة لضغوط الأسواق المالية، وبعد توجيه تلك البرامج إلى معالجة إخفاقات الأسواق، بدا أنها تسهم في تحقيق استقرار الأسواق المالية خلال المراحل الأولى من الأزمة. لكن في الاقتصادات التي تستمر فيها عمليات شراء الأصول في التوسع ويتبين أنها تمول عجز الموازنة، فإن تلك البرامج تؤدي إلى الحد من استقلالية البنك المركزي، وتهدد بإضعاف العملة، مما يؤدي لإزالة الدعائم التي قامت عليها توقعات التضخم.
وفي إطار موقف البنك الدولي في النظر للتطورات في الأجزاء الأخرى بالعالم، فإنه، في شرق آسيا والمحيط الهادي، من المتوقع أن يتسارع معدل النمو في المنطقة إلى 7.4 في المائة خلال 2021، وفي أوروبا وآسيا الوسطى ينمو بنسبة 3.3 في المائة، وفي أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، ينمو بنسبة 3.7 في المائة، بينما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ينمو النشاط الاقتصادي بنسبة 2.1 في المائة في العام الحالي. وفي جنوب آسيا، ينمو النشاط الاقتصادي بنسبة 3.3 في المائة. وأخيراً أفريقيا جنوب الصحراء، يتجه النشاط الاقتصادي إلى الارتفاع بنسبة 2.7 في المائة.
وفي الختام؛ لا بد من الانتباه إلى أنه سيواجه بعض الاقتصادات الناشئة ومعظم الدول منخفضة الدخل، خطر تدني معدلات النمو ما لم تصاحبها إصلاحات حقيقية مع توفر اللقاحات والكفاءة في عدالة توزيعها.

د. ثامر محمود العاني

* مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية
– أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً

الدعم أو الودائع… هناك خيار ثالث

طرح الاقتصادي روي بدارو خطة عمل انتقالية، تنطلق من بدء رفع الدعم وفق ثلاث مراحل، يفترض ان يتجّه معها لبنان نحو market mechanism، بحيث يلعب السعر دوراً فاعلاً في تحديد العرض والطلب. وشدّد على انّه اذا لم نسمح للأسواق بالتحرّك بكل حرّية، فأي تحوّرات فيها ستكون لمصلحة المافيات وأصحاب الكارتيلات..

 

إعتبر الاقتصادي روي بدارو، اننا اليوم امام معضلة قوامها اما إزالة الدعم، واما سلب أموال المودعين، إذ أنّ عدم إيقاف الدعم يعني سلب أموال صغار المودعين خصوصاً، وتوزيعها على كل المواطنين، ومن ضمنها غير المستحقين او الطبقة التي لا تحتاج الى دعم، اما في إعطائها الى النظام السوري من خلال التهريب. لذا يستحيل الاستمرار في هذا النهج، ويجب التحول الى مرحلة انتقالية. فقد سبق للسلطة ان سلبت أموال المودعين بعد تدني قوتهم الشرائية نحو 80%، وما الاستمرار بالدعم سوى لسلبهم المزيد دعماً لغير المستحقين.

 

وبرأي بدارو، انّ المصرف المركزي بدأ باستعمال أموال الاحتياطي الالزامي، مقدّراً المبلغ الذي استُعمل منه بنحو نصف مليار دولار، ليتراجع حجم الاحتياطي من 16 ملياراً الى 15.5 مليار دولار، واصفاً المؤشر بالخطير، لأنّه بمثابة غرفٍ من أموال صغار المودعين وتوزيعها على الجميع من ضمنهم مستوردو المحروقات والتجار. لذا بات من الملح اليوم إعادة النظر بسياسة الدعم.

 

وقال لـ «الجمهورية»: «انّ البدء في رفع الدعم، خطوة أساسية من شأنها ان تعطي إشارة ايجابية للدول المانحة وللمؤسسات الدولية وللأسواق المالية ولصندوق النقد، فتسهل بدء التفاوض معه، كذلك تساعد هذه الخطوة في تحسين سمعة لبنان، فيتمكن في العام 2024 من الدخول مجدداً الى الأسواق المالية العالمية، وهذه خطوة أساسية للانطلاق مجدداً. فإذا لم نعاود الدخول الى هذه الأسواق لن تكفينا المساعدات التي قد نحصل عليها، مع العلم انّ لبنان بعد هذه الأزمة سيكون مراقباً أكثر من أي وقت مضى».

 

وشرح بدارو، «انّ دعم القمح الحاصل اليوم من قِبل مصرف لبنان يجب ان يُخصص فقط للخبز العربي وليس لخبز الهمبرغر او الباغيت او الكعك… لكن لأنّه يستحيل مراقبة كيفية استخدام الافران للطحين المدعوم، تمكن هذا القطاع من تحقيق ارباح طائلة، وبما انّ قيمة دعم القمح تبلغ نحو 150 مليون دولار سنوياً، نحن نحبذ تحويل هذا المبلغ الى العائلات الفقيرة وليس الى المصالح الخاصة.

 

الامر سيان بالنسبة الى دعم الادوية والمعدات الطبية. فبسبب هذا الدعم بات سعر الدواء اللبناني زهيداً جداً مقارنة مع بقية الدول، لذا من الأجدى ان تحدّد السوق سعر الدواء وفق العرض والطلب بدلاً من ان يحدّدها موظف في وزارة الصحة او وزارة الاقتصاد؟ بالتأكيد يجب ترك السوق يحدّد سعر الدواء تجنباً لتهريبه الى البلدان المجاورة، لكن للأسف هنا أيضاً تعاني الأسواق اللبنانية من الاحتكارات في قطاع الدواء، لذا من الضروري فتح الأسواق اذا كنا نريد تحريرها من الاحتكارات، وهذا شرط أساسي يستوجب تمرير قانون المنافسة الموجود اليوم في المجلس النيابي».

 

تابع بدارو: «يستهلك مصرف لبنان 6.4 مليارات دولار سنوياً من ودائع الناس، من ضمنها مليار دولار نفقات للدولة (اوجيرو، البعثات الديبلوماسية، قطع غيار للدرك وللجيش…)، علماً انّ هذا المبلغ قابل للتخفيض، فيبقى لدينا 5.4 مليارات دولار من ضمنها 2 مليار دولار تذهب هدراً من خلال التهريب الى سوريا او غيرها من الدول، يبقى منها 3.4 مليارات دولار تُستعمل للدعم داخل لبنان. ويحتاج لبنان خلال السنتين المقبلتين الى 150 مليون دولار لاستمرار دعم القمح، و600 مليون دولار للأدوية، بما مجموعه حوالى 750 مليون دولار. كذلك يجب تخصيص مبالغ من اجل أي خطة طوارئ، ربما تُستعمل لتأمين المازوت او ربما سلفة لكهرباء لبنان، مع التشديد على ضرورة وقف هذه التسليفات ورفع التعرفة ووقف الهدر التقني وغير التقني».

 

مرحلة انتقالية

ورأى بدارو، اننا اليوم في مرحلة انتقالية يجب التحول فيها من الدعم المفرط الى الدعم الموجّه، لنصل لاحقاً الى المرحلة الأخيرة، والتي تقضي برفع الدعم عن كل شيء، وذلك خلال ثلاث او أربع سنوات. وقال: «نحن لا نزال اليوم في المرحلة الأولى، أي الدعم المفرط داخلياً وخارجياً، حيث يستفيد من الدعم الحالي المافيات، والتهريب الذي يستفيد منه النظام السوري وحلفاؤه في لبنان». وشدّد على ضرورة الانتقال الى المرحلة الثانية، والتي تقضي بتوجيه الدعم مع اعطاء بطاقة نقدية تستفيد منها العائلات الأكثر فقراً، والتي تقدر اليوم بأكثر من 150 الف عائلة، وهؤلاء يستفيدون أصلاً من دعم البنك الدولي، ومن المرجّح ان يرتفع هذا الرقم الى ما بين 350 الفاً او 400 الف، على ان ننتقل بعد حوالى 3 او 4 سنوات الى مرحلة رفع الدعم نهائياً ورفع البطاقات النقدية. وعندها يجب ان نكون انتقلنا الى مرحلة النمو وإعادة التوظيف.

 

في الموازاة، يجب في اسرع وقت، اليوم قبل الغد، البدء باعتماد الخطوات التالية:

– الكف عن اعتماد التسعير الاستباقي، لأنّ فيه سرقة موصوفة للمستهلك، والاستعاضة عنه بتسعيرة الدولار، وما أن يصل المستهلك الى الصندوق يدفع بالليرة اللبنانية وفق تسعيرة سعر الصرف. فما يحصل، انّ غالبية تجار الجملة وأصحاب الوكالات يسعّرون اليوم البضاعة وفق سعر صرف اعلى من المعتمد في السوق حفاظاً على ارباحهم. على سبيل المثال، اذا كان الدولار بـ12 الفاً يسعّرون البضاعة استباقياً وفق دولار 15 الفاً، لذلك يجب وضع الأسعار بالدولار، وعندما يشتريها المستهلك يدفعها وفق سعر الصرف اليومي.

– يجب رفع الحدّ الأدنى للأجور الى ما يساوي حوالى 125 دولاراً شهرياً وفق معدل سعر الصرف خلال الشهر، بحيث يكون الحدّ الأدنى للأجور متحرّك شهرياً يراعي تحركات سعر الصرف خلال الشهر، شرط ان تُلغى في الوقت نفسه كل العطاءات المترافقة مثل التنقل والمساعدات المدرسية… ففي حينه تحدّد كلفة موحّدة لكلفة العمل، شرط الّا تتدخل الدولة في تحديد الشطور، ويقتصر دورها على تحديد الحدّ الأدنى فقط.

 

واقترح بدارو ان يكون الحدّ الأدنى مناطقياً، إذ لا يجوز ان يكون راتب من يعيش في الريف كمن يعيش في العاصمة، علماً انّ هذا النظام متّبع في أكثر الدول تطوراً مثل المانيا. ورأى انّ من شأن هذه الخطوة ان تحرّر العاصمة من التضخم وتخلق فرص عمل في الأرياف وتنمذيها.

 

ورأى انّ رفع الدعم والاسعار يرتبطان بالرؤية المستقبلية لاقتصاد لبنان، ويستحيل اليوم استمرار العيش براتب 40 دولاراً شهرياً، هذا ضحك على المواطن. واستمرار هذا الغبن سينعكس سلباً على الضمان الاجتماعي الذي لن يطول الوقت قبل ان ينهار اذا استمر الوضع على ما هو عليه.