الدولارات الطازجة في الخارج تُغري «المنظومة»

 

مع استمرار الغموض الذي يكتنف آلية عمل المنصة الالكترونية المركزية التي سيطلقها مصرف لبنان في النصف الثاني من نيسان المقبل، تبرز علامات استفهام في شأن مصير الاموال التي كوّنتها المصارف في الخارج بناء على التعميم 154.

لا يزال التكتّم قائماً في شأن آلية عمل منصة مصرف لبنان، خصوصا لجهة الامور التالية:

اولاً – هل من تمويل لهذه المنصة ام ان التمويل سيكون ذاتياً من خلال البيع والشراء من السوق؟

ثانياً – هل سيُعيد مصرف لبنان ضخ الاموال وفق الكوتا التي خصّصها في السابق لصيارفة الصف الاول، والتي جرى تعليقها من دون الاعلان رسمياً عن ذلك؟ وهل لديه النية لزيادة هذه الكوتا ما دامت المصارف ستدخل بدورها على خط بيع وشراء الدولار؟

ثالثاً – هل من وسائل تمويل اضافية سيجري اعتمادها، كأن يفرض المركزي على المصارف استخدام نسبة من أموالها التي كوّنتها لدى المصارف المراسلة بناء على التعميم 154، لتغذية سوق المنصة؟

رغم الشح في المعلومات حتى الان، لا يبدو انّ المركزي يتجه الى خيار إلزام المصارف استخدام أموال من الاحتياطي الذي كوّنته في الخارج، لأسباب عدة، من أهمها:

اولاً – الهدف من هذه الاموال في الدرجة الاولى الحفاظ على استمرارية العلاقات مع المصارف المراسلة، وهو أمر حيوي للحفاظ على القدرة على فتح اعتمادات وتحويل اموال عند الضرورة. وهذا الجسر يُبقي لبنان ضمن السوق المصرفي العالمي، ولو أنه خرج من الاسواق المالية العالمية بمجرد اعلان التوقف عن دفع ديونه الدولارية منتصف آذار 2020.

ثانياً – يهدف التعميم 154 الى الحفاظ على نسبة 3 % على الأقل من مجموع الودائع في المصارف المراسلة، ولا توجد مصارف نجحت في تكوين نسبة اكبر ليجري استخدامها في سوق الصرف في الداخل.

ثالثاً – هذه الاموال ستكون بمثابة احتياطي للاستخدام في دعم تنفيذ ومواكبة أي خطة إنقاذية يتم إقرارها بالتعاون مع صندوق النقد، كما انها ستكون بمثابة احتياطي لمواجهة أي مطبات قد تتعرّض لها مصارف غير قادرة على الاستمرار في السوق في المرحلة المقبلة.

رابعاً – كلفة هذه الاموال مرتفعة على المصارف، ولا يمكن هدرها في سوق الصرف لأن اسعار الفوائد التي تُدفع على هذه الاموال، وبالدولار الطازج، أعلى من الاسعار المخفّضة التي حدّدها مصرف لبنان للودائع الدولارية العالقة في الداخل. ورغم عدم توفُّر معلومات دقيقة حول الأسعار التي حدّدتها المصارف للزبائن الذين أعادوا هذه الاموال وأودعوها في حسابات المصارف المراسلة، إلا أن التقديرات تشير الى نسبة تتراوح بين 3 و4 %. وهذا يعني ان كلفة الاحتفاظ بهذ الاموال قد تتراوح بين 100 و125 مليون دولار سنويا. هذا المبلغ سيكون بمثابة حِمل اضافي على ميزانيات المصارف، بسبب عدم القدرة على توظيف هذه الاموال، لأن التعميم 154 يشترط الابقاء عليها مُحرّرة من أي قيود. بالاضافة الى انّ المصارف وقّعت عقوداً مع أصحاب هذه الأموال، بالابقاء عليها في الخارج، ومُحررة أي غير مُوظفة في أي استثمار.

تبقى الاشارة الى ان الابقاء على هذه الاموال مجمدة لمدة طويلة من دون البدء في خطة للتعافي، يشكّل خطراً على الوضع برمته. وليس واضحا بعد، ما هي الخلاصات التي ستخرج بها لجنة الرقابة على المصارف التي تدرس حالياً ملفات المصارف والمخططات التي قدمتها اداراتها لشرح تطلعاتها في المرحلة المقبلة. لكن من الواضح انّ بعض المصارف لن تكون قادرة على تلبية الشروط المطلوبة للاستمرار، وستسلّم مفاتيحها الى مصرف لبنان، اذا طُلب منها ذلك. وهنا ايضا، ورغم ان المركزي اكد انه سيضع يده على هذه المصارف، ويحمي حقوق الزبائن، ويتولى ادارة البنك المتعثّر الى أن يصبح وضعه سليماً ويتمّ بيعه، إلا أن هذا الامر لن يكون سهلا، ما دام مصرف لبنان نفسه يُعتبر في حالة عجز، ولا يملك من المقومات المالية والمعنوية ما يسمح له بتنفيذ هذه المهمة.

ما هو مُقلق، أن تصبح عملية وضع اليد على المصارف غير القابلة للحياة تمويهية، ومجرد فترة انتقالية قبل اعلان افلاس كل مصرف عاجز عن الاستمرار. وفي هذه الحالة، لن يحصل المودعون سوى على ضمانة الودائع، بما يعني إعادة كل وديعة تحت الـ75 مليون ليرة، أو ما يعادلها بالدولار، الى صاحبها. وينبغي الاشارة هنا الى ان مؤسسة ضمان الودائع تحمي حوالى 80 % من المودعين من حيث العدد، وربما أكثر بعد عمليات السحب الممنهج للودائع الصغيرة منذ بدء الأزمة حتى الآن.

لكن، من المؤكد ان مثل هذه التطورات السلبية، أي اعلان افلاس مصارف، لن يحصل في الوقت الراهن، على اعتبار ان لا فائدة من إخراج أي مصرف من السوق، لأن الاضرار ستكون كبيرة، خصوصا الاضرار النفسية المتأتية عن الافلاس. وبالتالي، ستكون هناك مرحلة انتظار على طريقة اتخاذ القرار مع وقف التنفيذ.

كل هذه الاسباب، بالاضافة الى أهمية الابقاء على احتياطي نقدي للاستخدام عند الحاجة الطارئة تحتّم عدم التفكير في استعمال الاموال لدى المصارف المراسلة في سوق الصرف. وعلى الأرجح، هذا الأمر لن يحصل، إلا اذا تجاوزت الضغوط السياسية حد المنطق والعقل، وهذا الأمر وارد دائماً.

انطوان فرح.

صراع عالمي حول الغنائم

أعادت جائحة فيروس «كورونا المستجد»، والحوافز المالية الاستثنائية المرافقة، كتابة دور البنوك المركزية. والآن بعد الزخم الذي بدا يتلقاه التعافي الاقتصادي حول العالم، فهناك صراع عالمي يدور حول الغنائم، وكم من الصلاحيات التي يتعين على السلطات النقدية أن تتخلى عنها.
تفرض خطوط الصراع تمييزاً قليلاً بين مختلف المناطق، وما إذا كان الاقتصاد ناشئاً أو نامياً، وما إذا كان لدولة غنية أو فقيرة. ففي نيوزيلندا، رائدة بلدان العالم في استهداف التضخم، أصدر وزير المالية قراراً يقضي بأن بنك الاحتياطي النيوزيلندي لا بد أن يزداد اهتمامه بشأن تكاليف الإسكان. ولقد حصل زعماء أسعار الفائدة في البرازيل أخيراً على الاستقلالية القانونية الكاملة – وما كان ذلك مجانياً بحال. وفي إندونيسيا، يواصل الساسة التعدي على استقلالية أكثر البنوك المركزية نفوذاً وتأثيراً في جنوب شرقي آسيا.
لقد وضعوا مشروع قانون برلماني يسعى إلى الحصول على دعم بنك إندونيسيا المركزي للميزانيات الحكومية في أوقات الطوارئ المالية. ويتجاوز ذلك موافقة البنك على شراء 574.4 تريليون روبية (40 مليار دولار أميركي) من سندات الدولة في العام الماضي، تلك الخطوة التي وُصفت في ذلك الوقت بأنها إحدى النواتج المنفردة لجائحة «كورونا المستجد». وفي واقع الأمر، فإن الفكرة القائلة بأن هذه الخطوة كانت مجردة استجابة لحالة الطوارئ الصحية بالغة القسوة تعني أن إندونيسيا قد دفعت ثمناً ضئيلاً للغاية لعملية تسييل الديون، تلك العملية التي كانت تعتبر في يوم من الأيام من قبيل البدع المصرفية. ومن خلال محاولة الربط بين تعهدات أخرى مماثلة مع الفوضى المالية العارمة بدلاً من ربطها بالأمراض الفتاكة الشائعة، فإن المشرعين يسعون بصورة فعالة إلى جعل ما كان ذات يوم أمراً استثنائياً يُلجأ إليه في حالة الطوارئ إلى أداة من الأدوات الاقتصادية الاعتيادية.
ورغم أن طبيعة هذا التوغل فريدة من نوعها في جاكرتا، فإن إعادة صياغة الاقتصاد النقدي أصبحت ظاهرة عالمية. لقد انتهت التخفيضات الهائلة في أسعار الفائدة، والتي ميزت التراجع المشهود لفيروس كورونا في أغلب البلدان. وتستعد التجارة العالمية للانتعاش الكبير خلال العام الحالي، ويشعر المستثمرون بالانزعاج إزاء العودة المحتملة للتضخم. وهذا من شأنه أن يجعل المزيد من المغامرات في السياسات غير التقليدية أمراً في غاية الصعوبة؛ نظراً للتسارع المتوقع في النمو العالمي هذا العام.
إن نجاح الممارسين يجعلهم عرضة للمخاطر. ما هو الثمن الذي سوف يدفعه صناع السياسات في مقابل الطريقة التي تتداخل بها التدابير النقدية في كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية تقريباً؟ وهل تصبح بعض خطوات مكافحة الأزمات، التي اتخذت خلال أحلك ساعات الوباء، هي الأكثر استدامة؟ لقد رأت النخبة السياسية ما تستطيع البنوك المركزية أن تفعله في تلك الأوقات. ومن الصعب أن نلومها على محاولة فرض المزيد من الضغوط على زعماء أسعار الفائدة.
تشكل التنازلات والتسويات من ويلينغتون وبرازيليا إشارة على ما قد يحدث. فلقد أصدرت الحكومة تعليمات إلى بنك الاحتياطي في نيوزيلندا، أول سلطة تتبنى هدف التضخم في ثمانينات القرن العشرين، بدراسة أسعار المساكن في القرارات. ولقد قاوم البنك المركزي الفكرة في بداية الأمر، غير أن قرار وزير المالية جرانت روبرتسون قد ساد في نهاية المطاف. وواقع الأمر، أن الخطة العقارية ذات طبيعة سياسية إلى حد مثير للإزعاج، والقليل من الأمور أكثر أهمية بالنسبة للناخبين من القدرة على تحمل تكاليف المسكن، سيما مع ارتفاع أسعار المساكن في نيوزيلندا إلى عنان السماء.
وفي البرازيل، كان إحدى النواتج الثانوية لجائحة فيروس كورونا يتمثل في إضفاء الطابع الرسمي على استقلال البنك المركزي. وفي داخل البنك، ظل المسؤولون حريصين لفترة طويلة على التصديق على استقلالية الحكم الذاتي للبنك، رغم أن الفصل بحكم الأمر الواقع عن النزوات السياسية كان ممارساً لفترة من الوقت.
ليست هناك حاجة إلى أن ينزعج مقاتلو التضخم بشدة. لطالما كان لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي هدف يتمثل في تحقيق أقصى قدر من التوظيف، إلى جانب استقرار الأسعار. ويعتبر دعم الوظائف من بين الأهداف التي يتم السعي إلى تحقيقها في جاكرتا. ويتعين على المدافعين عن بنك إندونيسيا المركزي العناية الفائقة باختياراتهم. ولا يجب أن يخافوا من الحساسيات ذات الصلة بسوق العمل، فلقد جرى كسب المعارك الكبيرة ضد التضخم. وسوف تظل البطالة الممتدة من تراث جائحة فيروس كورونا لفترة من الزمن، بصرف النظر عن حجم المكاسب التي حققها الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، وهذه من الحقائق الاقتصادية والسياسية المعروفة.
تعد هذه التغيرات، إلى حد ما، ردة فعل ضد التركيز المفرط على السيطرة على الأسعار. وفي حالة إندونيسيا والبرازيل، فإنها تعكس إعادة تنظيم المؤسسات على غرار ما يفضله صندوق النقد الدولي. فقد أعيدت صياغة الحوكمة في إندونيسيا، على سبيل المثال، بعد الانهيار المالي في عام 1998، ولقد امتدت آثار إعادة ترتيب الحياة العامة إلى تحديد سعر النقود.
بدأت المشاجرات حول غنائم انخفاض معدلات التضخم ومحاولات التأقلم المفرطة تتكشف الآن. ومن الصعب للغاية أن تنأى بنفسك عن حالة التساهل الشديدة، لا سيما عندما تتطفل بنفسها على الساحة المالية. وتبرر الظروف الراهنة الإبداع والابتكار. غير أن هذا لا يجعل من السهل العودة إلى صورة من صور الحياة الطبيعية، بصرف النظر تماماً عما يعنيه ذلك.

دانيال موس