اقتصاد المؤثرين

لعقود طويلة احتل الفنانون واللاعبون اللوحات الإعلانية، وارتبطت أسماء العديد منهم بالماركات المشهورة، حتى استحدث مبدأ (سفير الماركة)، وأصبح أحد المبادئ المعتادة في التسويق. وبظهور الثورة الرقمية في العقدين الأخيرين، ظهر نوع جديد من التسويق يعتمد على نوع آخر من المشاهير، ليسوا أولئك المشاهير في الرياضة أو الفنون، إنما مشاهير العالم الافتراضي الذين يُطلق عليهم اصطلاحاً (مؤثرو مواقع التواصل الاجتماعي). وهم مستخدمو هذه المواقع ممن لديهم عدد كبير من المتابعين، ولهم تأثير كبير في سلوك متابعيهم. وأصبح هؤلاء المؤثرون أحد أكثر أنواع التسويق نمواً إن لم يكن الأكبر خلال الخمس سنوات الأخيرة.
ولم يزد حجم اقتصاد المؤثرين في 2016 على 1.7 مليار دولار، ليصل إلى 9.7 مليار عام 2020، و13.8 مليار نهاية العام الماضي. وبلغت نسبة الشركات المستفيدة من إعلانات المؤثرين نحو 65 في المائة في 2020، ويتوقع أن تزيد هذه النسبة لتصل إلى 75 في المائة بنهاية هذا العام. ويعد جيل الألفية من أهم الشرائح التي يستهدفها التسويق من خلال المؤثرين، ويتوقع أن يبلغ إنفاق هذا الجيل نحو 70 في المائة من الإنفاق السنوي العالمي على السلع الثمينة البالغ 350 مليار دولار عام 2025.
وتوصلت الدراسات إلى أن المستهلكين يثقون في المؤثرين أكثر من ثقتهم بالإعلانات التقليدية التي تنشرها الشركات من خلال الإنترنت. كما أوضحت أن المحتوى الذي يقدمه المشاهير أكثر تركيزاً وتوجيهاً للمستهلكين، مما يزيد قناعة المستهلكين بالمنتجات والخدمات التي يعلن عنها المشاهير. ويصل عدد المؤثرين اليوم بحسب مراكز الدراسات إلى نحو 50 مليون مؤثر حول العالم، ويرى أكثر من 90 في المائة منهم أنهم هواة وليسوا محترفين في هذه المهنة.
ولكن هؤلاء الهواة يشكّلون أهمية كبيرة في عالم التسويق بغض النظر عن مدى جدية ما يقدمونه من محتوى، وهم كذلك يحققون عوائد كبيرة حتى وإن لم تكن حصتهم كبيرة من هذه العوائد. فعلى سبيل المثال، فقد حقق المؤثر الصيني (لي جياكي) نحو 250 مليون مشاهدة خلال البث المباشر الذي عرضه قبيل يوم العزاب والذي استمر لنحو 12 ساعة متواصلة، وسوّق هو ومؤثر آخر ما قيمته 3 مليارات دولار من السلع خلال أقل من 24 ساعة. كما حققت الإيطالية (كيارا فيرانجي) عوائد زادت على 36 مليون دولار خلال زواجها الذي استمر ثلاثة أيام، مستفيدة من متابعيها في الإنستغرام الذين يزيدون على 27 مليون متابع.
وبسبب ازدهار التسويق عن طريق المؤثرين، فقد برز اقتصاد المؤثرين بشكل واضح، وأنشئت شركات وسيطة متخصصة في ربط المؤثرين بالشركات الإعلانية، ويزيد عدد هذه الشركات الوسيطة على 19 ألف شركة حول العالم، وزادت عوائدهم العام الماضي على 10 مليارات دولار، ويتوقع أن تصل هذه العوائد إلى 85 مليار في عام 2028، وهو ما يعني أن هذا الاقتصاد ما زال في طور النمو وما زال يشكّل الكثير من الفرص. وقد وصل حجم هذا الاقتصاد في الصين لوحدها عام 2020 إلى 210 مليارات دولار، أي أنه يُشكّل ما نسبته 1.4 في المائة من الناتج القومي الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وقد أسهمت الجائحة في زيادة حجم هذا الاقتصاد، ففي فترة زاد ارتباط الناس بهواتفهم الذكية، كان لديهم الكثير من الوقت لمتابعة المشاهير وتسويقهم والبحث عن حلول تساعدهم في تمضية الوقت خلال الجائحة. وقد استفادت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل هائل من الجائحة، سواء من زيادة المشتركين، أو من عوائد الإعلانات. ويعد إنستغرام من أكثر المواقع التي تجذب المسوقين، ويأتي بعده فيسبوك، وتيك توك، ويوتيوب، وتويتر، وأخيراً سناب تشات. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الترتيب يختلف من بلد إلى آخر. وبالنظر إلى يوتيوب على سبيل المثال، وهو بالعادة يأتي في المراكز المتوسطة، فقد دفع إلى منشئي المحتوى العام الماضي أكثر من 30 مليار دولار!
إن اقتصاد المؤثرين هو من الظواهر التي فرضتها التقنية، والتي استثمرها العديد من المؤثرين بشكل حقق لهم عوائد طيبة، كما زاد من نشاط مواقع التواصل الاجتماعي وأضفى عليها استدامة من خلال تحقيقهم لأرباح هائلة. ولكن العديد من الدول اليوم وفي مقدمتها الصين بدأت في تضييق الخناق على هذا الاقتصاد، لا سيما من باب المسؤولية الاجتماعية. وقد أظهرت تقارير أن السلطات الصينية تخطط لفرض قيود على مقدار الأموال التي يجمعها المؤثرون من متابعيهم، ومراقبة ما يسمح لهم بنشره. كما تدرس العديد من الدول مدى تأثير هؤلاء المشاهير على المتابعين وخاصة من الناحية السلبية، حتى لا يكون تحقيق الأرباح لهؤلاء المؤثرين على حساب خداع عامة الناس.

د. عبد الله الردادي

إفلاس الدولة و”المركزي”.. مصطلحات أثارت زوبعة

لماذا فاجأ إعلان نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي عن إفلاس الدولة ومصرف لبنان، كل فئات المجتمع من مواطنين عاديين ومودعين وصولاً حتّى الى خبراء ماليين ومسؤولين سياسيين؟ أليست المصائب التي تتوالى على الشعب اللبناني منذ اندلاع الأزمة في 2019، من تخلّف عن سداد الديون الخارجية وحجز الاموال وانهيار الليرة وتحويل الودائع الى الليرة وفرض سقف للسحوبات النقدية بالليرة وانقطاع المواد الاساسية الحيوية والغذائية والصحية وارتفاع نسَب التضخم ومعدل البطالة والفقر الى مستويات قياسية، مؤشرات على إفلاس الدولة؟

قد يكون المصطلح غير قانوني وتقني، باعتبار انّ الدولة غير مفلسة لأنها تمتلك أصولا ويمتلك مصرف لبنان احتياطياً من الذهب، رغم انه لا يغطي فجوته المالية، إلا انه صحيح ان الدولة مفلسة على صعيد السيولة النقدية المتوفرة لديها، كذلك الامر بالنسبة للمصرف المركزي. ولو تجرّأ احد من المسؤولين منذ العام 2019 على إعلان حقيقة الوضع المالي للدولة والقطاع المصرفي، لَما كان تصريح الشامي قد أثار هذا الكمّ من الاستهجان والهلع لدى المواطنين، الذين وبعد حوالى 3 اعوام، ما زالوا في حالة إنكار ويأملون، بسبب وعود حكّامهم الواهية، باستعادة ودائعهم كاملة، ولم يستدركوا بعد حجم وعمق الأزمة المالية والاقتصادية التي تعاقَبَ السياسيون وأمعنوا في تفاقمهما منذ التسعينات.

 

إلا ان غالبية متلقّفي تصريح الشامي، اعتبروا انه تمهيد للاعلان عن خطة التعافي التي تتفاوض الحكومة عليها مع صندوق النقد الدولي، والتي من المفترض ان يفرج عنها بعد توقيع الاتفاق المبدئي مع الصندوق، حيث سيتم الاعلان رسمياً عن طريقة توزيع الخسائر بين الدولة، مصرف لبنان، القطاع المصرفي والمودعين.

 

في هذا الاطار، رأى الباحث في الشؤون المالية والإقتصادية البروفسور مارون خاطر انّ «التصريح المُلتبس لنائب رئيس الحكومة أثار بلبلة في الأوساط المحليّة والعربيّة والعالميَّة. لم يشكّل الكلام عن لبنان المتعثّر عن سداد ديونه منذ العام ٢٠٢٠ مفاجأةً في حد ذاته بل في توقيته واهدافه وباستعمال مصطلح «الإفلاس» وهو لا ينطبق على الدّول ولا على مَصَارِفِها المركزيّة. تراجع الشامي عن موقفه وتراجع عنه أيضاً رئيس الحكومة مُبَدِّلاً الملاءة بالسيولة ومصحِّحاً الخطأ بخطأ». واعتبر خاطر ان التوقيت جاء مفاجئاً لتزامنه مع تزخيم التفاوض مع صندوق النَّقد الدولي ومع التسريبات المستغربة عن التوصّل إلى اتفاق وشيك. أمَّا المفارقة فهي أن المفاوضات مع الصّندوق، والتي يترأسها الشامي نفسه، ترتكز على إقرار خطة تعاف اقتصاديَّة تشمل إعادة هيكَلة الدَين العام المتعثّر السداد وليس على «إدارة تفليسة».

 

قال: في التوقيت أيضاً، يأتي كلام الشامي بعد سنتين ونصف من محاولة إبعاد كأس التعثّر الداخلي، وبالتالي التعثر الكلّي. أليس لأجل ذلك تمَّ تمويل الاستيراد ظُلمًا عبر استنزاف الاحتياطي في الوقت الذي أمَّن فيه طبع العملة دفع الرواتب؟ في اهدافه، وفي سياق تصويبه على فَداحة الأزمة، قد يكون الكلام عن الإفلاس يمهّد لتوزيع الخسائر إنطلاقاً من رؤية نائب رئيس الحكومة كما شَرَحها في المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهي ترتكز على مساهمة متواضعة للدولة وللمركزي.

 

أضاف: أمّا إن كان كلام الشامي غير مقصود أو صدرَ عن طريق الخطأ، فمشكلة أيضًا. تناقلت وكالات أنباء عربيَّة وعالميَّة تصريحات الشامي التي راجَت أيضاً على مواقع التواصل. أما تداعياتها فأتت محدودة بسبب غياب عنصر المفاجأة على الرغم من صدور مقالات في صحف عربية أبدت تخوّفَها من خسارة ودائع دولها المودعة لدى مصرف لبنان. في سياق مُتَّصِل، تحدثت تقارير إعلاميَّة عن تَحَرُّك الدائنين من حملة اليوروبوندز باتجاه التفكير الجدّي بمقاضاة دولتنا التي تقاعست عن مفاوضاتهم.

 

توزيع الخسائر

بالنسبة الى توزيع الخسائر ودور أصول الدولة في إطفائها، اشار خاطر الى انه في مقاربتها لموضوع توزيع الخسائر، «يستند الفريق المفاوض مع صندوق النَّقد الدَولي إلى عدم مَيل الصُّندوق الى استخدام موجودات الدَّولة في أطفاء الخسائر. أمَّا السبب وراء ذلك فحرص الصندوق على تحقيق استدامة الدين العام. يُلقي هذا التوجه بالجزء الأكبر من الخسائر على المصارف والمودعين في ظلّ عجز المصرف المركزي عن الإيفاء بالتزاماته. إستطردًا، وانطلاقاً من مبدأ «هرمية الذمم» الذي يعتمده، سيلجأ صندوق النَّقد الى الأموال الخاصة للمصارف لتغطية خسائر القطاع المالي قبل اللجوء الى أموال المودعين».

 

تابع: بناء على ما تقدم، وبسبب الحاجة إلى تشريعات استثنائية معقدة وبسبب صعوبة تسييل الأصول، يبدو أنه لن يتم اللجوء إلى بيع أصول الدولة وموجوداتها أو خَصخصتها من أجل إطفاء جزء من الخسائر وفي ذلك ما هو إيجابيّ. فهذه الأصول مُلكٌ لجميع اللبنانيين. لذلك فاستعمالها لإطفاء خسائر تسبّب بها حكّام متعاقبون عبثوا بالدولة ودَمَّروا مُقَدَّراتها تدميراً ممنهجاً يبقى غير مُحق. وفي غياب المحاسبة، لن يكون التخلي عن أصول الدولة بيعاً أو خصخصة إلا من قبيل هدر ما تبقَّى مما لم يُسرَق أو بيعه بأبخس الأثمان بعد تدميره أو تعطيله. في انتظار إنتاج سلطة جديدة تُقصي الفاسدين، من المُمكن عزلهم ومَنعِهِم من إدارة مرافق الدولة عبر إنشاء «صندوق سيادي» بإدارة دولية تساهم عائداته في سداد جزء من الفجوة الماليَّة.

 

هل تفلس المصارف المركزيَّة؟

اوضح خاطر انّ المصارف المركزية لا تُفلس ولا تُطَبَّق عليها القواعد المحاسبيَّة التي تُطَبَّق على المصارف. وهي ليست ملزمة بإعادة الرسملة إذ يمكنها أن تستمر بعملها حتى وإن أصبحت رؤوس اموالها سلبية. قد تتعرض المصارف المركزية للإفلاس المحاسبي إلا أنه لا يؤثر على استمرار عملها. أما كلام نائب رئيس الحكومة عن «إفلاس» المصرف المركزي فالمقصود منه أنّ المصرف المركزي ليس لديه حاليًّا قدرة الايفاء بالتزاماته بسبب تراكم عجزه الذي تخطى 60 مليار دولار. واعتبر ان كلام الشامي يدخل أيضًا في سياق إعادة توزيع الخسائر، فهو يُشير من ناحية الى أنَّ مصرف لبنان هو المسؤول أمام المصارف التي يَدين لها بالجزء الأكبر من التزاماته (مما يُبَرِّر عجزه)، ثم يؤكد من ناحية ثانية وفي سياق الحديث نفسه أنَّ الدولة والمركزي (وهما عاجزان بحسب قوله) والمصارف والمودعين يتحملون الخسائر معًا بناءً على ما تقدَّم، فإنَّ استخدام نائب رئيس الوزراء لمصطلح «الإفلاس» كان غير موفّق وقد يكون غير مقصود به إفلاس المصرف المركزي الذي يَعني عمليًا إفلاس المصارف.

رنى سعرتي