أرشيف التصنيف: المقالات العامة

عن غسل أخضر وإفصاح مضلل وعلاج مؤذٍ

أفردت مجلة الإيكونيميست البريطانية غلاف عددها الأخير وموضوعها الرئيسي وصفحات لملف خاص لثلاثة حروف باللغة الإنجليزية ESG (إي إس جي) ملخصة للاستثمار الذي ازداد شيوعاً وفقاً لمؤشرات، غير مالية، تخضع للاعتبارات البيئية والاجتماعية، فضلاً على الحوكمة. وتندرج تحت الاعتبارات البيئية موضوعات تغيرات المناخ والانبعاثات الضارة به، وتلوث المياه والهواء والتنوع البيئي وكفاءة إدارة المخلفات، وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة. وتضم الاعتبارات الاجتماعية معايير العمل وإدماج النوع الاجتماعي في سياسات التعيين وتنوع قوة العمل في الشركة وحقوقها وتكافؤ الفرص بين العاملين والعاملات ورضا المتعاملين مع الشركة وخصوصية معلوماتهم. أما حوكمة الشركة فتشمل تمثيل مجلس الإدارة وفاعليته ولجان الرقابة والمراجعة الداخلية والخارجية وكفاءتها، فضلاً على معايير إثابة ومكافأة الإدارة العليا، وممارساتها بشأن الضغوط السياسية للترويج لأعمال الشركة والمساهمات في الحملات الانتخابية والإفصاح عنها وفقاً للقوانين المعمول بها، وقواعد تعارض المصالح ومنع الرشوة والفساد.
وتذهب مجلة الإيكونيميست إلى أن الاستثمار وفقاً للاعتبارات البيئية والاجتماعية، وما يتعلق بالحوكمة على النحو المتقدم يعاني من ثلاث مشكلات جوهرية:
أولاً، إنها تحمل في طياتها أهدافاً متعارضة عملياً فقد تخفق الشركة في اعتبارات الحوكمة، بينما تحقق إنجازاً في مجال حماية البيئة والمناخ فإلى أيهما يجنح المستثمر في تفضيله؟
ثانياً، إن هناك افتراضاً قد لا تسانده الممارسة العملية من أنَّ الاستثمار وفقاً للحوكمة والأبعاد البيئية والاجتماعية يأتي مصاحباً بعوائد مالية عالية للمستثمرين؛ وهو ما يفترض أن النظم الرقابية والمجتمعية تجبر الشركات كافة على إدراج مخرجاتها السلبية أو ما يطلق عليه الاقتصاديون الوفورات السلبية في نشاط الشركة الداخلي، بدلاً من تحميله على المجتمع. فكم من شركة حملت المجتمع بمخلفاتها الضارة من ملوثات للهواء والمياه أو مواد تغليف مدمرة للبيئة كالبلاستيك؟
ثالثاً، تعاني الاستثمارات وفقاً للمؤشرات البيئية والاجتماعية والحوكمة أو «إي إس جي» من معضلة قياس تسهم في ظاهرة الغسل الأخضر التي تضلل الأسواق والمستثمرين بتشتت المقاييس، وعدم اتساقها من حيث المفهوم ومكونات المقارنة. ففي حين تتسم مؤشرات التصنيف الائتماني، مثل فيتش وستاندارد أند بورز وموديز، بمعامل ارتباط إحصائي قوي بين تصنيفاتها للشركات يبلغ 99 في المائة، إلا أن التصنيف وفقاً لمؤشرات البيئة وأخواتها لا يحقق معامل ارتباط يتجاوز 50 في المائة في أفضل الأحوال.
ووفقاً لهذا توصي مجلة الإيكونيميست بالتركيز على مؤشر واحد. وهي لا تكتفي بالتوصية باستبعاد الاعتبارات الاجتماعية وحوكمة الشركات أيضاً معها، ولكن توصي بالتركيز على مكون واحد للاعتبارات البيئية وهو الانبعاثات الضارة بالمناخ وحدها دون غيرها، وهي بالمصادفة تختصر بحرف «إي» أيضاً باللغة الإنجليزية. أي أن التوصية تستبعد الاسترشاد الاستثماري وفقاً لاعتبارات بيئية واجتماعية ومعها الحوكمة، وأن يُختزل الأمر كله في بعد واحد هو البيئة أو المناخ وبمؤشر وحيد لهما لرصد التطور المأمول وهو الانبعاثات الضارة وبتركيز فقط على الانبعاثات الكربونية. وفي هذا الاختزال ضرر بالغ ينبغي توضيحه بقدر من التفصيل:
في البداية أشير إلى ما كتبته في هذه الصحيفة الغراء في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2018، تحت عنوان «عن مسؤولية الشركات» متسائلاً: هل تهدف فقط إلى تحقيق الربح أم أن لها، أو بالأحرى عليها، التزامات اجتماعية؟ وأوردت رأي الاقتصادي الأشهر ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقاله الصادر في عام 1970؛ ويذهب فيه إلى أن هدف وجود الشركة هو تحقيق الربح فقط، وأن مديري الشركات لم يمنحهم ملاك أسهمها صلاحية لينفقوا من مواردها على خدمات اجتماعية، وأن هذا من شأن الحكومة التي تحصل ضرائب من أرباح الشركات لتنفقها على هذه الأغراض. ويستند أنصار هذا الرأي لافتراضات عن اقتصاد تحكمه قواعد السوق التي تنظمها رقابة فاعلة حصيفة ومنافسة عادلة، وفي هذا الاقتصاد تختص الشركات بشؤونها وتنفرد الحكومات بمسؤولياتها. وقد أشرت إلى أن العلاقة بين الشركات والمجتمعات التي تعمل فيها قد مرت بثلاث مراحل للتطور، وفقاً لمايكل بورتر أستاذ استراتيجيات الشركات بجامعة هارفارد، تراوحت بين تبرع الشركة لبعض الأنشطة الخيرية أو فرض نوع من الالتزامات المالية الإجبارية عليها، بخلاف الضرائب، توجه لأنشطة تحددها السلطات، ثم أتت المسؤولية الاجتماعية للشركات متزامنة مع إعلان الأمم المتحدة في مطلع القرن الحالي لتطبيق الأهداف الألفية للتنمية، التي انتهت في عام 2015. وقد حلت محلها أجندة التنمية المستدامة، والتي توافقت الآراء على أهمية مشاركة القطاع الخاص في تحقيق أهدافها الطموحة والتي ينبغي الانتهاء منها مع حلول عام 2030. هذه الأهداف الجديدة تستوجب إدماج عناصر الاستدامة، المتمثلة في تحقيق النمو الشامل، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة والمناخ، والحوكمة، في النشاط الأساسي للشركات وليس مجرد وجودها كواجهة تعبر عن حسن النوايا تجاه المجتمع. ومع ذلك تبقى أهمية مضمون ما ذهب إليه فريدمان من ضرورة تحقيق الشركة للربح، فبدونه ستزول الشركة من الوجود، ولو بعد حين، إفلاساً أو إدماجاً، ولكن تأتي المعايير الجديدة للاستدامة لترسخ «كيفية» حصول الشركة على هذا الربح.
وكثيراً ما يتجاوز مديرو الشركات فيقولون إن من أهداف شركاتهم تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ ووجه التجاوز في تقديري هو أن أهداف التنمية المستدامة قد صيغت أصلاً لتقع تحت مسؤولية الدول وحكوماتها، وأن الشركات ومؤسسات الإنتاج بصياغات ملكيتها المختلفة عليها أن تسهم فقط في تحقيقها، وفقاً لمجالات عملها وأن الشركات ستجد لزاماً عليها التوافق مع معايير بيئية واجتماعية، فضلاً على الحوكمة ليس تفضلاً منها، ولكن وفقاً لقواعد العمل بالسوق المراقبة بفاعلية ومحفزاتها وألخصها في أربعة:
أولاً، قواعد رقابية ملزمة تتجاوز التزام البديهيات مثل دفع الضرائب ورسوم الجمارك والتزام مواصفات جودة السلع وتحري السلوك الأمثل في السوق كمنع الممارسات الاحتكارية، إلى ضوابط العمل اللائق وفقاً لمنظمة العمل الدولية والاعتبارات البيئية وأحكام العمل وفقاً لقوانين الشركات.
ثانياً، تستلزم قواعد المنافسة غير السعرية بين الشركات تسويق نفسها وفقاً لمعايير مساندة المجتمع وقيمه، للحفاظ على مكانتها وسمعتها كشركة لا تنتج سلعاً عالية الجودة ومتنافسة السعر فحسب، ولكنها تساند المجتمع في تحقيق مساعيه.
ثالثاً، هناك شركات أنشأها مؤسسوها وفقاً لقناعات تتوافق في عقيدتهم السلوكية بأن تحقيق الربح لا يتعارض مع فعل الخير للمجتمع المحيط بها. كما أن من نماذج الشركات ما أخذ كياناً تعاونياً لا يوزع صافي الإيراد على المساهمين بل يراكم ليزيد من نشاطها، ومنها ما يوجه جانبا من الإيراد للمجتمع في شكل وقف أو إسهام في مؤسساته الاجتماعية كدور العلم والرعاية الصحية. بل إن من صناديق الثروة السيادية ما جعل إنفاق جانب من أرباحها لضرورة أو بنسبة محدودة، وأن يظل جل الفائض لحماية الأجيال القادمة.
رابعاً، إن من الشركات الحصيفة ما تحسب لما هو قادم فجعلت من أولوياتها إيجاد مخصصات تتوقى من تغيرات في القوانين والقواعد الرقابية ولوائح الإفصاح مستقبلاً، وفقاً لضغوط مجتمعية مبررة للحفاظ على المناخ الذي تؤكد التقارير العملية مزيداً من تدهوره رغم كثرة الوعود والتعهدات المتكررة بالحفاظ عليه.
وقد أشرت من قبل إلى أن الشركات في اليابان، على سبيل المثال، تقدم نموذجاً جديراً بالتدبر والانتفاع به، إذ تقود اتحادات الشركات منافسة فيما بينها في إطار التزام عقدته على احترام صارم للقوانين المنظمة لأعمالها، واتفقت الشركات من خلال اتحاداتها ومنظماتها المركزية والإقليمية على مبادئ للعمل والتنافس تتبنى مسلكاً جديداً نحو الاستدامة وسلوكاً مختلفاً في الإدارة يهدف إلى: تطوير منتجات وخدمات مفيدة اجتماعياً وذات نوعية عالية من خلال الابتكار مع حماية خصوصية البيانات؛ واحترام قواعد المنافسة الحرة والعادلة؛ والإفصاح عن نشاط الشركات وفقاً للمعايير الملزمة؛ وتسيير العمل في نشاط الشركات في الداخل والخارج بما يتوافق مع حقوق الإنسان ومواثيقها؛ وتقديم معلومات تفصيلية واضحة للمستهلكين تسمح لهم بالاختيار؛ وتوفير بيئة عمل صالحة لكافة العاملين مراعية أسس عدالة الفرص والأجور، واعتبارات السلامة والصحة؛ وتطبيق إجراءات حماية البيئة، ومنع التلوث، وتخفيض انبعاثات الكربون الضارة؛ وتدوير المخلفات والتعاون مع السلطات المعنية ومؤسسات المجتمع المدني في تطوير المجتمع المحلي من خلال أنشطة ذات نفع حقيقي ومتوافقة مع النشاط الرئيسي للشركة؛ وإعداد نظام متكامل لإدارة الأزمات بالتعاون مع جهات الاختصاص للتصدي لأخطار الإرهاب والجريمة المنظمة وتهديد نظم المعلومات والكوارث البيئية.
وتتعهد الشركات بقيام الإدارة العليا بالشركات بمتابعة تنفيذ الإجراءات والمعايير السابقة، باعتبارها مسؤولية تقع على عاتق الإدارة العليا تحديداً، مع الإدراك التام بأن أي تهاون بشأنها، يضر بالشركة وبالثقة بها، بما يستدعي فوراً إعلان الشركة عن تحمل المسؤولية واتخاذ التدابير المناسبة للتعرف على سبب المشكلة وحلها ومنع تكرارها.
وفي التعهدات السابقة تجد ترجمة تفصيلية وتفعيل الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة التي يجري الاستثمار في الشركات وفقاً لها؛ فأي نصيحة تلك التي تسديها مجلة الإيكونيميست لمجتمعات الأعمال؟ وما فائدة أن تختزل المعايير غير المالية واجبة الاتباع في واحدة تتعلق بالانبعاثات الكربونية مهدرة لمقومات أخرى لا تقل أهمية للعمل البيئي والمناخي، ومستبعدة أبعاداً حيوية للأثر الاجتماعي ومقللة من شأن الحوكمة التي ما زالت تصارع من أجل ترسيخ مبادئها؟ ومن عجب أنها تدفع بتغليب عنصر واحد وهو تسعير الكربون وما زالت نظم تسعيره المتباينة لا تشمل أكثر من 23 في المائة من إجمالي الانبعاثات الضارة عالمياً وفقاً لما أوردته.
حقاً لا يحتمل هذا العالم استمراءً في ممارسات الغسل الأخضر بتضليل في التقارير أو تضارباً في المعايير، ولكنه لا يحتمل أيضاً اختزال الاستدامة في معيار واحد مهما بلغت أهميته. والدعوة الأجدى نفعاً أن تكون بالتوافق على المعايير الأساسية الحرجة للأبعاد البيئية والمناخية والاجتماعية فضلاً على الحوكمة وتفنيدها والالتزام بها تطبيقاً وإفصاحاً على النحو المعمول به في المؤشرات المالية المعتمدة لمحاسبة الشركات ومراجعتها وتصنيفها، وهي ذاتها محل تقييم وتطوير مستمرين.

د. محمود محيي الدين

اقتصادي مصري

الصين وأزمة الدين العالمي

عندما أطلقت الصين مبادرة طريق الحرير أو ما يسمى بـ(الحزام والطريق) عام 2013 كانت أهدافها واضحة، وهي الارتقاء بالبنى التحتية لعدد كبير من الدول، بما يخدم أهداف هذه الدول، دون إغفال أهداف ومصالح الصين. وهذا المشروع هو أكبر مشروع أطلقته الصين على الإطلاق، وهو أكبر مشروع تطلقه دولة واحدة للارتقاء بالبنى التحتية على مستوى العالم. ولا تستغرب زيادة المخاطر في هذا النوع من المشاريع العملاقة، خاصة مع مشاركة العديد من الدول النامية التي لا تملك تصنيفا ائتمانيا عاليا، ولكي تدعم الصين هذه المبادرة، توجب عليها توفير الأدوات لهذه الدول، مدركة أن أي احتمالية بعدم سداد القروض ترتفع فيها مقارنة بغيرها من الدول. ولكن الصين مولت هذه الدول بقروض مختلفة، بهدف المضي قدما في هذه المشاريع، ولم تشتك هذه الدول ولا غيرها آنذاك، ولكن الآن ومع أزمة الديون العالمية، بدأت أصابع الاتهام تتوجه إلى الصين، بما يسمى بـ(توريطها) للدول النامية والفقيرة بديون لا تستطيع سدادها.
بداية يجب توضيح مصالح الصين في تمويلها للدول النامية في مبادرة طريق الحرير، وهي مصالح متعددة وتختلف باختلاف الدول والقروض ولم يسبق للصين أو لأي دولة أخرى إنكارها. أولى هذه المصالح هي نجاح مبادرة طريق الحرير، وهو الذي يهدف إلى ربط الصين بدول العالم، سواء كانت هذه الدول سوقا للمنتجات الصينية، أو مصدرا للمواد الخام للصناعات الصينية. الفائدة الثانية هي أن العديد من المشاريع الممولة قامت بها شركات صينية، في وقت تشبعت فيه السوق الصينية ولم تجد هذه الشركات مشاريع تمكنها من العمل، فأوجدت الحكومة الصينية بهذه المبادرة مشاريع شغلت شركاتها وأضافت لاقتصادها بطريق غير مباشر. الثالثة هي الفوائد من القروض التي تعطيها الحكومة الصينية لهذه الدول، والصين متضررة بلا شك من تعثر الدول في السداد. هذه النقطة مهمة جدا، لأن البعض يروج إلى أن الصين ورطت الدول في قروض لا تستطيع سدادها، وذلك لكي تتمكن من الاستحواذ على منشآتها كالمطارات والموانئ وغيرها، والواقع أن فائدة الصين أكبر في حال سددت هذه الدول قروضها، بدلا من الاستحواذ على أصول قد تكلف الكثير لإدارتها بشكل فعال.
والمشكلة التي حدثت مؤخرا، هي عدم قدرة العديد من هذه الدول على سداد قروضها، لأسباب لا تخفى على الجميع، ومنها الجائحة وارتفاع مستوى التضخم مؤخرا. وهناك أسباب أخرى تتعلق بارتفاع معدل الفساد في بعض الدول، وغياب الحكمة في اتخاذ القرارات حول بعض الاستثمارات، والمثل المتداول في هذا حاليا هو سريلانكا التي مولتها الصين بـ12 مليار دولار في العقدين الأخيرين، وحيث بُنيت أبراج وملاعب دون وجود عوائد ذات قيمة مضافة للبلد. هذه المشكلة لا تنفي وجود مشاريع ذات جدوى في مبادرة طريق الحرير، لعل أبرزها هو خط سكة الحديد بين إثيوبيا وجيبوتي، والذي يمتد لـ750 كيلومترا، مختصرا الوقت المستغرق بين المحطتين من 3 أيام إلى 12 ساعة.
ويتضح من بعض الحالات، أن المشكلة تكمن في عدم تأكد الصين من جودة المشاريع أو جدواها قبل منح القروض، بل قامت بإعطاء قروض دون التأكد بشكل كامل من إمكانية السداد أو العوائد التي تساهم في السداد. ولذلك فإن العديد من الدول اليوم تواجه مشاكل في الإيفاء بديونها، مما قد يتسبب في أزمة ديون في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ووصلت قيمة القروض التي يتم التفاوض فيها لعامي 2020 و2021 إلى 52 مليار دولار، وهو ثلاثة أضعاف الرقم في العامين اللذين سبقاهما (16 مليار دولار). وهذا مثال على التدهور في القروض الصينية الخارجية التي وصلت إلى 118 مليار دولار في القروض الصينية منذ عام 2001.
لقد استخدمت الصين قوتها الاقتصادية في تمويل العديد من الدول، بالنظر إلى مصلحتها الشخصية أولا، وتوجهت إلى دول في حاجة لهذا التمويل وإلى مشاريع البنى التحتية، ولكنها الآن في مأزق قد يؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي. فهي تطالب هذه الدول بسداد ديونها، ولكنها قد تواجه مصاعب تماما كما حدث مع سريلانكا. والمثال الأقرب والذي سيتابع عن كثب في الأيام القادمة هو زامبيا، حيث تزيد القروض الصينية على ثلث الديون الخارجية للبلد. وسوف تتابع الدول النامية كيف ستتعامل الصين مع زامبيا لأنها قد تكون مثالا لما قد تفعله مع بقية الدول النامية. فهل ستتمكن الصين من معالجة هذه الأزمة بنفس الأسلوب الذي اتبعته حين قدمت هذه القروض؟ أم ستتمسك بحقها في السداد، معرضة العالم بأسره لأزمة ديون لم يواجهها منذ الثمانينات الميلادية؟

 

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

الخيال وخلق الثروة

إنّ موضوع خلق الثروة والرهان على الاستثمار ودوران عجلة التنمية من الموضوعات الرئيسية المطروحة على طاولات العالم العربي والإسلامي، حتى ولو كان ذلك بشكل متفاوت من حيث التركيز والاستعداد. والغالب على خطاب كيفية خلق الثروة التشديد على المال والإطارات المتخصصة والبنية التحتية للبلد من طرقات وشبكات اتصال ووسائل نقل… وطبعاً كل هذه المسائل أساسية وعلى غاية من الأهمية، ومن ثم فإن عدم توفرها سيشكل عائقاً للتنمية والاستثمار وخلق الثروة.
غير أنه في مقابل ذلك هناك معطى لا نطرحه فوق طاولات رسم المقاربات وتحديد استراتيجيات خلق الثروة، وهو معطى يتعلق بعلاقة الخيال بخلق الثروة.
نعم، للخيال دور كبير جداً في خلق الثروة لأن خلق الثروة فكرة خلاقة ومبدعة أيضاً، وكي تنبثق الفكرة لا بد من خيال حر ومبدع يولّد الأفكار الجديدة والبصمة الفريدة الخاصة التي تجعل بلداً ما قِبلةً العالم أكثر من بلد آخر.
لا تقدُّم ولا تنمية ولا استثمار من دون خيال خلّاق ومبدع. وأول ما يشدّنا في أي منتج وخدمة إنما هي اللمسة الإبداعية الخاصة التي أنتجها خيال أصحابها.
صحيح أن العولمة أوقعتنا في الفخ وكبحت جماح الخيال وغرست في أذهاننا فكرة أن أقصى ما هو مطلوب هو أن تكون شبيهاً للغير المتقدم الذي استحق فرض خياله الخاص على الجميع، ولكنّ هذا الفخ يجب أن نغادره إذا أردنا فعلاً التميز والبحث في ذواتنا عن ذاتنا. وفي هذا السياق تتأكد أهمية تحرير العقل الذي يتبعه تحرير للوجدان والخيال، الأمر الذي يتيح للفرد التحليق في خياله وإنتاج الأفكار الخلاقة التي هي أصل التقدم… فكل شيء بدأ فكرة غير مألوفة.
ولنضرب مثالاً على دور الخيال في خلق الثروة وهو المجال السياحي؛ فالسياحة هي مصدر للاستثمار في الجمال والراحة والترفيه والخدمات ذات الجودة والتراث المادي والرمزي والاستثمار أيضاً حتى في نمط العيش والأخلاق والقيم، إذ الشعوب التي تتميز بمنسوب مرتفع في العنف لا تكون وجهة الباحثين عن الاستمتاع بالحياة والاستجمام. كما أن السياحة أيضاً تمثل استثماراً في كل ما هو إيجابي في البلد بدءاً من الطقس والفنادق وصولاً إلى الاستقرار وتوفر مستلزمات أنموذج بلد يحلو فيه العيش، أي إنه قبل أن يكون أي بلد وجهة الغير من المنطقي أن يشعر فيه أصحاب البلد ومواطنوه وسكانه بحلاوة العيش.
وكما نعلم فإن السياحة باتت رئة أساسية تتنفس من خلالها اقتصادات بلدان عدة، لذلك فإن المنافسة على أشدها إلى درجة يمكن الحديث فيها عن حرب أسواق في مجال السياحة ومَن الأقدر على تقديم الأفضل للأفواج السياحية. ويبدو لنا أن المنافسة تتطلب إطلاق العنان للخيال ليُنتج الأفكار الفريدة ويحقق التميز الذي يساعده في تحسين الأداء في المنافسة وافتكاك النصيب من الثروة.
ما نلاحظه أن غالبية الفنادق في بلداننا باتت على شاكلة الفنادق الأوروبية من حيث المعمار والهندسة الواحدة المتكررة مع فارق التصنيف من حيث عدد النجوم. وهنا نتساءل عن دور الخيال في توظيف المعمار العربي وتعدد إبداعاته في البلدان العربية.
فعندما نبني فنادق حاملة لخصوصية المعمار والبناء في بلداننا فذاك أكثر جاذبية للسياح الذين يأتون إلينا لاكتشاف ثقافتنا ومطبخنا وطريقة حياتنا لا ليجدوا نسخة من فنادقهم وأكلاتهم، وحتى الموسيقى المرافقة في مقاهي الفنادق هي أيضاً أوروبية كأن قانون الفندقة يمنع وضع الموسيقى المحلية المعبِّرة عن روح البلد.
هناك إهمال كبير للخيال وللخصوصية وإقصاء غير مفهوم لرأس المال الرمزي الخاص بنا والذي لا يخلو من جمال، وهو القصد من السياحة في العالم؛ فالسياحة لاكتشاف العوالم الأخرى وأنماط العيش الأخرى والمطابخ الأخرى وأنواع الجمال الأخرى.
وما ذكرناه بخصوص مجال السياحة ينطبق إلى حد كبير على مجالات كثيرة، وهو ما يصنع الفرادة، أي العملة الصعبة الحقيقية التي لا تتأثر بتقلبات البورصة العالمية.
إن قرار الانخراط في خلق الثروة والاستثمار والسعي إلى الخروج من بوتقة استهلاك منتجات الغير والتقليد، من المهم أن يوازيه أو يسبقه قرار تحرير الخيال في بلداننا وتمكين الأطفال والشباب من الأطر التي تساعدهم على تحرير الخيال وتشكيله وفق الحرية كي يبدعوا الأفكار ويبتكروا وتكون قدرتهم على إنتاج الحلول كبيرة ومتنوعة. لذلك فإن الاستثمار وخلق الثروات عادةً ما يرتبط بالشباب لجرأته ومعاصرته واستعداده للتغيير أكثر من الفئات العمريّة الأخرى.
بين الخيال والاستثمار لخلق الثروة عالم شاسع من الأفكار الأولى من نوعها في صورة تجسيدها على الجذب والاستقطاب. فالفكرة هي الخالقة للثروة وباقي العناصر تعد آليات تحقيق الفكرة وتأمين مسار التحقق.
كلما كان الخيال غنياً وحراً كان خلق الثروة عناءً ومتعةً.

د. آمال موسى

 

عن المناخ وثالوث أزمات الركود والغلاء والديون

يشهد العالم منذ أكثر من سنتين أحداثاً لم يشهدها مجتمعة منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فقد سببت أزمة «كورونا» أكبر حالة لركود اقتصادي منذ عام 1945، وتبعتها موجة تضخم حادة لا يوجد ما يضاهيها ارتفاعاً إلا ما شهدته الاقتصادات الأميركية والأوروبية في سبعينات القرن الماضي. وقبل نشوب أزمتي الركود والتضخم تواترت تحذيرات للدول النامية من أنها تواجه ارتفاعاً في المديونية الخارجية لمستويات حرجة تجعلها أكثر عرضة لتقلبات أسعار الفائدة والصرف الأجنبي وصدمات الارتفاع المفاجئ في تكاليف الاقتراض، وزيادة احتمالات التعثر في السداد.
ويشكل تراجع تقديرات النمو الاقتصادي العالمي في هذا العام والعام المقبل أيضاً إلى حدود تتراوح بين 2.5 في المائة و3 في المائة انخفاضاً حاداً عما كان عليه معدل النمو في عام 2021، ويتزامن ذلك مع ارتفاع في معدلات التضخم عن متوسطاتها العالمية لتبلغ 7.8 في المائة في أبريل (نيسان) الماضي، وفقاً لتقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في الشهر الماضي، الذي يرصد أيضاً ارتفاع معدلات التضخم في الدول النامية والأسواق الناشئة لتتجاوز 9.4 في المائة لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، وهذا التزامن بين انخفاض متوالٍ في معدلات النمو وزيادات في معدلات التضخم أعلى من متوسطاتها المستهدفة بما سبب حالة من الركود التضخمي، وأدى إلى انخفاض في متوسطات الدخول الحقيقية عن مستوياتها قبل أزمة «كورونا» في حوالي نصف عدد البلدان النامية؛ فاقتصاداتها مضارة مرتين؛ مرة بانحسار فرص النمو وزيادة البطالة التي تقلل من فرص التفاوض على أجر أعلى، كما أنها تتضرر من عدم زيادة أجور العاملين بمعدلات تفوق زيادة التضخم.
وقد بات لزاماً على صانعي السياسة الاقتصادية في الدول المتقدمة العودة إلى سجلات عقود مضت للتعرف على ما كان من أوجه التعامل مع ارتفاعات التضخم المتتالية في السبعينات، وما كان مجدياً منها وغير مجدٍ. وفي أحاديث مع مشاركين في مؤتمر دافوس الذي عُقد في شهر مايو (أيار) الماضي تبين أن التضخم الحاد يمثل تحدياً عمرياً للمديرين التنفيذيين للشركات ومؤسسات الإنتاج في البلدان المتقدمة، فمن يشغلون هذه المناصب تتراوح أعمارهم بين العقدين الرابع أو الخامس من العمر، أي أنهم كانوا في مراحل التعليم قبل الجامعي عندما كان التضخم ظاهرة تشغل بال الأسواق، وعليهم أن يتمرسوا التعامل مع هذه المتغيرات وثقافتها. هذا طبعاً على عكس الحال في الدول النامية التي لم تنقطع عن أكثرها تحديات ارتفاع الأسعار تزيد بها معدلات التضخم السنوية أو تحلق ارتفاعاً مسببة لموجات غلاء شديدة لا تطيقها دخول عموم الناس. ولكن مما لا شك فيه أن مجرد اجترار الذكريات عن التضخم وكيفية التعامل معه لن يجدي شيئاً مع تعقد الأزمات الاقتصادية وتشابكها.
مع شدة الأزمات المحتدمة تشابكاً من غلاء وركود وديون، تلوح فرص ترتبط بالعمل المناخي في التصدي الناجع لهذا الثالوث، إذا ما أحسن إدراج جهود التصدي لأزمات المناخ في السياسات العامة. ويأتي هذا باتباع نهج شامل للتصدي لتغيرات أولى من الاختزال المخل الذي جعل العمل المناخي يجتزئ إجراءات بعينها انحرافاً عن حسن إدارة العملية الانتقالية نحو الحياد الكربوني وفق اتفاق باريس وتعهداته الملزمة.
أولاً، أن سياسات إدارة الطلب بزيادة أسعار الفائدة لن تخفض التضخم بمفردها في البلدان المتقدمة اقتصادياً، وضررها بالغ على البلدان النامية، كما أوضح جوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقال مشترك مع الاقتصادي دين بيكر، أن مصدر ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة يرجع إلى صدمات في جانب العرض مثل الارتفاعات الحادة في أسعار الطاقة والغذاء والخامات التي انخفض عرضها بفعل «كورونا» وارتباك سلاسل الإمداد وتداعيات حرب أوكرانيا، فزيادات أسعار الفائدة لن تزيد المعروض من المنتجات، بل على العكس ستجعل تكلفة الاستثمار أكثر ارتفاعاً وتعوق جهود تنشيط جانب العرض. وفي مقال لاقتصادي مرموق حائز أيضاً جائزة نوبل في الاقتصاد، وهو مايكل سبنس، يحذر من مغبة الرفع المتزايد لأسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الرئيسية بدفعها للاقتصاد العالمي تجاه ركود أعمق. وفيما يتجاوز الأثر السلبي للأزمة الأوكرانية، يوضح سبنس أن هناك معوقات في جانب العرض وإنتاجية العمل والأجور النسبية تحتاج لعلاجات لن يجدي رفع أسعار الفائدة معها نفعاً. كما أن هناك تحديات جيوسياسية ورغبات في إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بدوافع تحقيق أمن الحصول على منتجات أساسية بتوطين عمليات الإنتاج أو من خلال التعاقدات مع مصادر أكثر تنوعاً للطاقة وأقل تركزاً من حيث المخاطر، ومرة أخرى لن تحقق ارتفاعات أسعار الفائدة أي تحسن في وفرة المعروض من المنتجات التي ارتفعت أسعارها، بل ستعيد تسعير الأصول المالية والعقارية والعملات. أما عن آثارها على البلدان النامية فستزيد من اضطرابات أسواق النقد الأجنبي والتدفقات المالية مع مزيد من التعثر في سداد الديون الخارجية.
ثانياً، دفع جانب العرض بزيادة الإنتاج والإنتاجية في قطاعات الطاقة والغذاء وإدارة المياه من خلال الاستثمار. جانب كبير من التضخم يرجع لزيادة أسعار الطاقة والمواد الغذائية التي زادتها سوءاً الحرب الأوكرانية. في الأجل القصير تأتي إجراءات انفعالية كرد فعل كاستخدام مولدات الكهرباء المستخدمة للفحم في أوروبا، ولجوء أكثر من 30 دولة لإجراءات حمائية ومانعة لتصدير منتجاتها الزراعية. ولكن في الوقت ذاته تتولد دوافع للاستثمار في الطاقة المتجددة وتطوير القطاع الزراعي ومنظومة الإنتاج الغذائي وكفاءة استخدام المياه بالتوافق مع إجراءات التخفيف والتكيف المناخي مع التوسع في استخدام مستحدثات التحول الرقمي والذكاء الصناعي، وما يتطلبه ذلك كله من استثمارات جديدة. ولعل أهم ما أسفرت عنه اجتماعات مجموعة السبع هو تعهدها في البيان الصادر عنها الشهر الماضي باستثمار 600 مليار دولار في مشروعات في البلدان النامية خلال السنوات الخمس المقبلة في مجالات العمل المناخي والصحة العامة والبنية الرقمية والمعلوماتية والعدالة بين الجنسين. وهذه المجالات تأتي في إطار اتفاق باريس وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر؛ وهي تتطلب تعاوناً فنياً وتكنولوجياً مع الدول النامية لا يقل أهمية عن التمويلات الموعودة، الذي أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أنها ليست منحاً أو معونات، لكنها استثمارات. بافتراض تدفق هذا التمويل فإن الفجوة التمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ستظل في حاجة إلى المزيد لتجسيرها، إذ تصل تقديراتها إلى 4.2 تريليون دولار سنوياً، وفقاً لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن خلال الاستثمارات الموجهة للدول النامية ذات النفع المتبادل، يمكن التعامل مع تحديات الركود بدفع نمو قطاعات الإنتاج وتيسير الحصول على طاقة نظيفة والتعامل مع أزمة الغذاء وأسعاره التي استعرت، خصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية.
ثالثاً، تخفيض الديون من خلال مبادلتها بالاستثمار في العمل المناخي، باعتبار أن درء مفسدة الديون المتفاقمة يقدم على جلب المنح والهبات، فهناك ضرورة تحتم إعادة النظر في المديونية الدولية، وأوجه الخلل فيها، ومنع انتشار أزمات التعثر في السداد والإعسار، وما يرتبط بها من مشكلات ويترتب عليها من تداعيات واختلالات اقتصادية في البلدان النامية، ولنا في الموجات الثلاث للديون، التي انتهت كل واحدة منها بأزمة كبرى، عظات. وباعتبار أننا لا نشهد تدفقاً مالياً يذكر للعمل المناخي رغم التعهدات، فمن مجالات العمل الممكن للتعاون الدولي تطوير وسائل جديدة من مبادلة الديون ويكون بمقتضاها استفادة الدولة المدينة بتخفيض ديونها الخارجية المستحقة، سواء كانت لمدينين رسميين أو تجاريين، من خلال تنفيذ مشروعات، كما فعلت دولتا بليز وسيشيلز، وإن كان من الأفضل أن يكون ذلك مقابل إجراءات تنفذها الدولة المعنية بالتوافق مع تعهداتها وفق اتفاق باريس، سواء في مجالات التخفيف أو التكيف بمنظومة محددة فنياً وزمنياً؛ وهو ما سأقوم بتوضيحه بتفصيل وأمثلة في مقال مقبل.
ولحسن التعامل مع الأزمات الراهنة يظهر بجلاء أن الاكتفاء بافتراضات سخية عن تماثل الأزمات الراهنة، أو تشابهها، مع أزمات سابقة لن يضعها على مسار حل سحري. كما أن لوم مصدر الأزمة بكونه من مسببات خارجية أو من مخلفات عهود بائدة، لن يفيد إلا لوقت وجيز يتلقى خلاله مدير الأزمة كلمات للتضامن أو التشجيع لا ينبغي أن تشغله عن مهمته الأساسية في التصدي للأزمة، فشأنه بعدها لن يكون مثلما كان قبلها بحال. وأفضل ما ينفع مما سبق من دروس الأزمات الفائتة أنها جميعاً إلى انقضاء، وهو ما قد يطمئن، ولكنها لا تنتهي تلقائياً ولكن بما يبذل في مواجهتها من جهد منظم بفريق محترف يقود مؤسسات ذات كفاءة بسياسات واضحة الرؤية. ومن دروس التعامل مع الأزمات أن لها تكلفة تزيد بإهمال التصدي الفوري لها، وأنها ليست عادلة في توزيع أعبائها، وهو ما ينبغي إدراجه في تصميم برامج التصدي لها، فكثير من أنواع الدواء الموصوف قد يكون أشد من الأزمة شراً. وسيتبين بعد نهاية الأزمة أنها، ككثير من سابقاتها، كان من الممكن التوقي من شرورها أو على الأقل من أغلبها. وهذا هو الدرس الأكبر من دروس تاريخ الأزمات بلا منازع، إذ أننا لا نتعلم منه شيئاً، بما يجعل الأزمات تتكرر بملل مزعج في كثير من مسبباتها.

د. محمود محي الدين

الغاز والطاقة النووية مصدران مستدامان… ماذا عن النفط؟

صوَّت نواب البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي لضم الغاز والطاقة النووية لسلة الطاقات المستدامة، بناء على توصية الهيئة التنفيذية للسوق الأوروبية المشتركة. صوت البرلمان على التوصية بأغلبية 328 صوتاً مقابل 278 بالضد، و33 امتنعوا عن التصويت.
واحتاج مشروع القرار 353 صوتاً لنقضه (فيتو). ولا تزال هناك فترة حتى 11 يوليو (تموز) الجاري يستطيع فيه البرلمان أو أحد الأقطار الأوروبية الأعضاء في السوق الاعتراض على القرار. وفي غياب ذلك سيصبح القرار نافذ المفعول السنة المقبلة.
تم التصويت على المشروع في خضم حملة قوية معارضة له من قبل حركات مكافحة التغير المناخي. يتوقع المراقبون استمرار الحملة المضادة من قبل الحركات المناخية والبيئية، نظراً لما يعتبرونه تنازلاً كبيراً للطاقات الهيدروكربونية.
بالفعل، بادرت حركة «غرينبيس» مباشرة بعد نهاية التصويت، بالإعلان عن نيتها طلب مراجعة داخلية للمشروع من قبل السوق المشتركة، ومن ثم اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية لاتخاذ خطوات قانونية لإيقاف مفعول القرار في حال عدم التوصل إلى نتيجة لصالحها. وصرحت المسؤولة في «غرينبيس» للحملات المالية: «هذه سياسة غير نظيفة، ونتيجة مستغربة لتسمية كل من الغاز والطاقة النووية طاقات خضراء، للاستمرار في تمويل حرب الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا. لكننا سنأخذ المعركة الآن إلى المحاكم والقضاء».
كما صرح مناهضون آخرون للقرار من الحركات البيئية، بأن هذا «يوم أسود للمناخ ولتحول الطاقة».
تكمن أهمية القرار في دور الريادة الأوروبية في حملة تصفير الانبعاثات العالمية بحلول عام 2050، من خلال تقليص الانبعاثات 55 في المائة في حوالي عام 2035، الهدف الذي أصبح صعباً جداً تحقيقه في ظل حرب أوكرانيا، والمقاطعات الأوروبية للوقود الروسي، والمحاولات الأوروبية لاستبدال إمدادات غازية من دول أخرى بالغاز الروسي، من خلال عقود حديثة ستتطلب استثمارات ضخمة جداً لإنجاحها اقتصادياً في خلال سنوات معدودة.
كما تكمن أهمية القرار في أنه بـ«تخضير» الغاز والنووي في ظل أنظمة السوق الأوروبية المشتركة سيعتبران ضمن استثمارات الطاقات المستدامة، مما سيمنح امتيازات استثمارية للقطاع الخاص لتمويلها. ولأجل تنفيذ برنامج 2035 المرحلي، تتوقع السوق الأوروبية استثمار نحو 350 مليار يورو في الطاقات «الخضراء» سنوياً.
من الواضح أن قرار البرلمان الأوروبي يأتي في وقت حرج لأوروبا. فالكساد التضخمي بدأ يهيمن على اقتصادات أوروبا ودول أخرى. كما أن ألمانيا -على سبيل المثال- بصدد تبني سياسات طاقوية مهمة جداً، بتغيير طرق تسلمها للغاز المسال، استبدالاً بالغاز الروسي المستورد بالأنابيب، مما سيقتضي تشييد البنى التحتية اللازمة لاستيراد الغاز المسال عبر الناقلات المتخصصة. والبديل لذلك، هو إما العودة للفحم الحجري، وهو في الحقيقة ليس بديلاً جدياً؛ إذ إنه سيعني زيادة التلوث بدلاً من تقليصه، وإما الاعتماد على الطاقات المستدامة (الرياح والشمسية)، ورغم أهمية هاتين الطاقتين مستقبلاً وتشييدهما في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، فإنه من غير المتوقع تشييدهما بالسرعة اللازمة لتلافي عجز الطاقة بحلول 2035، ما يعني تقليص الطاقة الكهربائية أو زيادة فواتير الكهرباء ابتداء من فصل الشتاء المقبل، ما يعني معاناة المستهلكين.
والمشكلة بالنسبة للحركات المناخية، هي أن «تخضير» الغاز يعني أنه بعد سنوات من الحملات ضد الوقود الهيدروكربوني، ستستمر أوروبا في استهلاك وقود هيدروكربوني (الغاز).
والأمر يختلف بالنسبة للطاقة النووية، فقد تبنت معارضتها الحكومات والحركات الخضراء لسنوات عدة، ولأسباب مختلفة، إذ لا توجد انبعاثات كربونية من المفاعلات النووية؛ لكن هناك احتمال انطلاق الإشعاعات النووية في حال وقوع خلل في المفاعل، مثل الخطر الذي تسبب في الإشعاعات المنبعثة من مفاعل «تشيرنوبل» الأوكراني الذي لا يزال راسخاً في الأذهان. والتحفظ الثاني على المفاعلات هو الوقت الطويل والكلفة العالية لتشييدها، والمحاولات لتحويلها من مفاعلات لتوليد الطاقة الكهربائية السلمية إلى مفاعلات لإنتاج السلاح النووي، كما في إيران حالياً. وأحد البدائل المقترحة هو تشييد مفاعلات صغيرة الحجم ومرنة الاستعمال لتفادي الانتشار النووي العسكري، ولقلة تكاليف إنشائها نسبياً، ومرونتها في الاستخدامات الصناعية.
يشكل القرار الأوروبي مفترق طرق مهماً جداً لصناعة الطاقة المستقبلية. فقد شكل إدماج الغاز؛ الوقود الهيدروكربوني الأقل في انبعاثاته الكربونية، وإمكانية اعتماد المفاعلات النووية المرنة، تبني سياسة أكثر واقعية لسلة الطاقات المستدامة المستقبلية.
ويعني هذا أيضاً في حال عدم إعاقة هذه المسيرة بالدعوات القضائية المنتظرة، أن يؤخذ النفط بالاعتبار لاحقاً، مثل الغاز والطاقة النووية. لكن يتوقع أن تكون معركة النفط هذه أكثر صعوبة، لما ستواجهه من معارضة من الحركات المناخية.
لكن من المنتظر أن يساعد النفط مستقبلاً في شيوع صناعة تدوير وتصنيع الكربون لإنتاج الهيدروجين الأزرق، كوقود مستقبلي خالٍ من الانبعاثات. وهذه صناعة حديثة العهد بدأ العمل بها في الدول النفطية الكبرى (عربياً وعالمياً)، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى استثمارات ضخمة والأبحاث العديدة لشيوعها، لتكتسب المصداقية اللازمة عند طرح النفط كوقود «أخضر».

وليد خدوري

مساهمة الشركات البترولية في عصر تحول الطاقة

تغيرت أولويات البشرية خلال الأعوام القليلة الماضية بسبب المعاناة من الأوبئة والمجاعات التي غيرت الكثير من المفاهيم حول أولويات الإنسان للحياة، وأضيفت لهذه المعاناة مؤخراً حرب أوكرانيا ومآسيها. ورغم أن هذه النكبات ليست جديدة على الإنسانية، إلا أن ما يميزها هذه المرة هو مسلسل وقوعها الواحدة تلو الأخرى. كان التصور الشائع أن العالم قد تقدم علمياً واقتصادياً، بحيث إنه من المستطاع حل كثير من المشاكل بسرعة، وعدم السماح لأكثر من مليون وفاة للجائحة. كما ساد التوقع أيضاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن الحرب بين المعسكرين الشرقي والغربي قد انحسرت إلى غير رجعة، بالذات على الساحة الأوروبية.
بدأت ردود الفعل الحتمية لهذه المآسي المتتالية تبرز تباعاً، ويتبين أن التحديات مستمرة. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في كلمة ألقاها عن بعد لمؤتمر استضافته برلين الأسبوع الماضي شاركت فيه قرابة 45 دولة ومنظمة إنسانية ووزراء خارجية «مجموعة السبع»، حذر العالم من «خطر مجاعة غير مسبوقة».
أدت هذه التطورات المأساوية، والأولويات العالمية السائدة خلال الأعوام الماضية، إلى بروز أزمة طاقة غير مسبوقة منذ حوالي نصف قرن، مردها تبني شعارات إيجابية في ظاهرها لكن بأجندات غير واقعية. والمثال على ذلك الموافقة الجماعية في مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة تغير المناخ في باريس 2015 بتصفير الانبعاثات بحلول عام 2050 لأجل التمكن من إنقاذ الكرة الأرضية من الكوارث المناخية والبيئية. وإلا، فإنه سيكون من الصعب جداً معالجة مشاكل الكرة الأرضية البيئية والمناخية بعد ذلك التاريخ.
الصعوبة الرئيسة التي واجهت قرار تصفير الانبعاثات منذ يومه الأول، هو معاداته ومحاولات تهميشه لأي شيء له علاقة بصناعات الوقود الأحفوري (النفط، الغاز، الفحم) التي توفر حالياً الأغلبية الساحقة من الطاقة للعالم. قادت الحركات المناخية والبيئية والدول الأوروبية بالذات هذه الحملة.
ورغم الأخذ بنظر الاعتبار وجهة النظر أن الانبعاثات الناتجة عن الوقود الأحفوري ضارة صحياً، إلا أنه يجب التنبيه إلى أن الأجندة للتخلص السريع وغير الواقعي من الانبعاثات قد رسمت من قبل الدول الأوروبية لتعكس أولوياتها وإمكاناتها التنفيذية لسن القوانين المناخية ومصالحها الاقتصادية والبيئية، وذلك بغض النظر عن مصالح الدول الأخرى ذات الاقتصادات المختلفة والمتخلفة، كما ناهيك عن الأخذ بنظر الاعتبار إمكانية توالي الكوارث المتوالية على البشرية لسنوات متتالية، مما يتطلب تخصيص مليارات الدولارات لتفادي نتائج هذه الكوارث.
أغلقت الحركات البيئية والأقطار الأوروبية المجال لمناقشة موضوعية حول إمكانية تنفيذ الأجندات المطروحة لتصفير الانبعاثات في المواعيد المحدد لها، أو إعارة الانتباه اللازم لتوفير المليارات من الدولارات لبعض الدول في تنفيذ هذه الأجندات في الأوقات المحددة.
لقد أهملت الحركات المناخية إمكانية الاستفادة من الإمكانات والمنشآت الموجودة عالمياً، وذلك ضمن حملتها الهادفة والمعادية للهيدروكربونات.
كان من الممكن الاستمرار بهذه السياسة لولا الكوارث العالمية، التي لا يزال يشكل البعض منها خطراً مستقبلياً على العالم. أدت المآسي المستمرة خلال الأعوام القريبة الماضية إلى تغيير الأجندات والأولويات، لكن ليس أهداف مسيرة تصفير الانبعاثات. فمقاطعة الوقود الروسي كشفت حقيقة الاعتماد الواسع للأقطار الأوروبية على مختلف أنواع الوقود الأحفوري، الذي كانت تستورد معظمه من روسيا. لقد أدت حرب أوكرانيا إلى بدء بعض الأقطار الأوروبية، رغم حماسها البيئي المشهود، وقبل غيرها، بسبب محاولة تلافي انقطاع الطاقة الكهربائية في الأشهر المقبلة أو ارتفاع أسعار الكهرباء إلى مستويات قياسية. بدأت هذه الدول (ألمانيا والنمسا وهولندا) التغاضي عن بعض القوانين التي دافعت عنها عالمياً وشرعتها محلياً، بإعادة الاعتماد على الفحم الحجري، رغم تلوثه. كما تتفاوض السوق الأوروبية وأقطارها لاستيراد إمدادات جديدة من الغاز، رغم القوانين الأوروبية نفسها بتخفيض استهلاك الغاز ما بين الأعوام 2030 – 2035.
من نافل القول إن المآسي العالمية الأخيرة ستتطلب مليارات الدولارات لتغطية المشكلات الناتجة عنها. ومن المتوقع أن تحصل هذه المليارات على الأولوية في موازنات الدول، وستحل محل الأولويات السابقة لتصفير الانبعاثات، التي بدأت تعد نوعاً من «الترف» في عالم غير مستقر.
هذا لا يعني بتاتاً غض النظر عن سياسات تصفير الانبعاثات. لكن الواقع الأليم سيفرض مراجعة الأولويات والأجندات. هذا التغيير في الاهتمامات والأولويات يتطلب أيضاً من الدول الأوروبية وحركات مكافحة التغير المناخي الأخذ بنظر الاعتبار إمكانية الاستفادة من الصناعة البترولية المساهمة الفعالة في استعمال تقنياتها وبناها التحتية والوقود الأخضر، في تصفير الانبعاثات بدلاً من نبذها أو مقاطعتها.
تبلغ قيمة أصول الشركات البترولية العالمية المليارات من الدولارات. وبنجاح الأبحاث في تدوير صناعة واقتصاد الكربون، يصبح من الممكن استعمال بعض هذه الأصول في تنمية طاقات جديدة، كالهيدروجين الأزرق، ناهيك عن إضافة الوقود الأخضر إلى سلة الطاقات المعتمدة بحلول عام 2050.

وليد خدوري

كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة

مجموعة بريكس

عندما تأسست مجموعة (بريكس) بشكل رسمي عام 2009 كان الهدف منها واضحاً، وهو الحاجة إلى وجود صوت للاقتصادات الناشئة في المجتمع الدولي. بدأت المجموعة حينها بأربع دول، وهي: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وانضمت جنوب أفريقيا بعد ذلك بعام ممثلة قارة أفريقيا، ليكتمل عقد دول (بريكس) الذي يعبر اسمها عن أول حرف من كل دولة من الدول الخمس رغبة هذه الدول في الحصول على نفوذ في المجتمع الدولي. وهي مجتمعة تشكل 41 في المائة من سكان العالم، أي أكثر بتسع مرات على الأقل من سكان الولايات المتحدة، وتُشكل مساحتها نحو 29 في المائة من مساحة العالم، وهي كذلك دول أعضاء في مجموعة العشرين التي تمثل أقوى اقتصادات العالم. و(بريكس) في الأساس فكرة غربية، ذكرت لأول مرة في ورقة نشرت لبنك (غولدمان ساكس) عام 2000 ناقشت فيها أهم الدول ذات الاقتصادات الناشئة، ولكنها طرحت للنقاش بين هذه الدول في 2006، وتبلورت وانطلقت بعد ذلك بثلاثة أعوام.
ولكن وضعها وأهميتها اختلف كثيرا منذ ذلك الحين، فعند تأسيسها، كان الناتج القومي لدول (بريكس) مجتمعة لا يتعدى 10 تريليونات دولار، وهو آنذاك يمثل أقل من 12 في المائة من الناتج القومي العالمي. أما اليوم، فناتجها القومي يزيد على 27 تريليون دولار، أي نحو ربع الناتج القومي العالمي. ولمقارنة ضخامة هذه المجموعة، يمكن مقارنتها بدول مجموعة السبع (وهي الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، واليابان، وألمانيا، وكندا، وإيطاليا). فالناتج القومي لمجموعة السبع 34 تريليون دولار، وتشير التوقعات إلى أن العقد القادم سيشهد زيادة الناتج القومي لمجموعة (بريكس) ليصل إلى نصف الناتج القومي العالمي، أي أنه سيتفوق على اقتصاد مجموعة السبع. كما أن عدد سكان (بريكس) البالغ 3.2 مليار نسمة (وهم في ازدياد) أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان مجموعة السبع البالغ 987 مليون نسمة.
وترى دول (بريكس) عدم عدالة تأثيرها ونفوذها الدولي، فالصين والهند هما ثاني وخامس أكبر اقتصادين في العالم على التوالي، ومع ذلك فإن تأثيرهما وتمثيلهما في المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا يقارن بالدول الأوروبية، ويقاس على ذلك بقية دول (بريكس). ونظرة (بريكس) في هذا الشأن واضحة، وهي أن هذه المنظمات أنشئت من قوى غربية، ولذلك فإن توجهها ونفوذها يدعم الدول الغربية أكثر من غيرها. وكرد فعل لذلك، فقد أنشأت دول (بريكس) منظمة سمتها «بنك التنمية الجديد» أو (NDB) عام 2015 برأس مال بلغ 50 مليار دولار، وبحصص متساوية بين الدول الخمس. ويهدف هذا البنك إلى دعم مشاريع البنى التحتية في هذه الدول، وقد دعم خلال الخمس سنوات الأخيرة 70 مشروعا للبنى التحتية بأكثر من 25 مليار دولار. يتضح من ذلك أن التزام دول (بريكس) بوعودها عالية جدا، وتشير الدراسات إلى أن هذه النسبة تقارب كثيرا نسبة التزام دول السبع.
وتنبع أهمية (بريكس) في هذا الوقت تحديدا مع بروز فكرة الفصل بين الشرق والغرب، ويدعم ذلك عدة نقاط. أولها انعقاد الاجتماع الرابع عشر في الصين أواخر الشهر الماضي، تزامنا مع انعقاد اجتماع الدول السبع في ألمانيا، واجتماع حلف الناتو في إسبانيا. فالاجتماع الأخير أكد على أن الصين تُشكّل تحدياً أمنياً، وهذه أول مرة يذكر فيها حلف الناتو ذلك على الإطلاق. الثاني أن الحرب الروسية الأوكرانية أكدت وبشكل واضح أن الصين والهند لن تقفا مع الغرب ضد مصالحهما. وكلتا الدولتين تشتري حاليا النفط من روسيا بأسعار مخفضة عن الأسواق العالمية، وقد ذكر الرئيس الروسي (بوتين) في اجتماع (بريكس) الشهر الماضي أن التبادل التجاري بين روسيا ودول (بريكس) زاد بنسبة 38 في المائة مؤخرا. الثالث هو أن هذه المجموعة أصبحت أقوى من ذي قبل، بدليل طلب العديد من الدول الانضمام إليها، وهو ما قد يزيد القلق الغربي منها.
إن مجموعة (بريكس) رغم أهميتها الحالية على المستوى الدولي، ليست حتى الآن على قلب رجل واحد، فالخلافات بين دولها عديدة وتحديدا بين أكبر دولتين فيها وهما الصين والهند، فالصين قلقة من متانة العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، والهند ليست سعيدة بالشراكة بين الصين وباكستان في طريق الحرير. كما أن نفوذ الصين في هذه المجموعة لا يمكن إغفاله، فهي تشكل 70 في المائة من الناتج القومي للمجموعة، وأقرب دولة لها هي الهند بـ13 في المائة فقط! ومع أن انضمام دول جديدة إلى المجموعة قد يزيد المجموعة قوة، فإنه قد يضعف موقف الدول الحالية ضمن المجموعة، حتى مع وجود شرط الإجماع لانضمام أي دولة للمجموعة! هذه الخلافات قد تكون حاسمة في مستقبل المجموعة، لا سيما إذا ما استغلتها القوى الغربية في التفريق بينها.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

الإضرابات الأوروبية

موجة من الإضرابات تشهدها الدول الأوروبية اليوم، من خطوط الطيران، إلى النقل العام، إلى السكك الحديدية. هذه الإضرابات جاءت في وقت تزدحم فيه أوروبا بالسياح القاصدين إليها من جميع أنحاء العالم، للاستمتاع بصيفها ومزاراتها السياحية. ولكن لا يبدو أن السياح سيجدون أوروبا التي اعتادوا عليها قبل سنوات. فمطاراتها اليوم ملأى بطوابير المسافرين الحانقين من التأخير، والرحلات الملغاة، والحقائب الضائعة. فلماذا وصلت أوروبا إلى هذه الحالة؟ وماذا يحمل المستقبل لها؟
قد يكون مصطلح «التضخم غير المتكافئ» أحد أهم أسباب هذه الإضرابات. ويشير هذا المصطلح إلى زيادة التضخم في الأسعار، والذي لا تصاحبه زيادة مماثلة في الأجور. وعلى الرغم من أن قطاع النقل استبشر خيراً بانتهاء الجائحة، بعد أن عانى كما لم يعانِ من قبل، فإن التضخم هاجم أوروبا بضراوة، مدعوماً بالحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة أسعار النفط وغيرها من العوامل. ووجد الموظفون أنفسهم أمام تضخم لم يشهدوه خلال حياتهم المهنية، فآخر تضخم شبيه كان قبل نحو 40 عاماً. وتحججت شركات الطيران والنقل بالآثار السلبية للجائحة، والتي تمكن بعضها بالنجاة منها بأعجوبة، بينما أعلن البعض الآخر إفلاسه خلال الجائحة، وخروجه من السوق.
هذه الإضرابات لن تكون مجرد أخبار عابرة لدى عامة الناس؛ بل سيرونها بأعينهم، وقد تؤثر عليهم بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال، قام الموظفون في كل من طيران بروكسل و«راين إير» بإضراب تسبب في إلغاء نحو 315 رحلة، شمل إسبانيا والبرتغال وبلجيكا، وهو في الطريق لكل من إيطاليا وفرنسا. كان السبب الرئيس لهذا الإضراب هو نقص الرواتب، وسوء حالة العمل الذي تسبب فيه نقص العاملين في هذا القطاع. فبسبب الجائحة، قلصت العديد من شركات الطيران والمطارات موظفيها، وعندما عاد القطاع للعمل لرتمه المعتاد، اضطر الموظفون للعمل برتم أكبر من المعتاد؛ خصوصاً أثناء الصيف حين تزدحم المطارات. ولم تستطع العديد من شركات الطيران والمطارات التوظيف بشكل سريع، بسبب إجراءات الفحص الأمني التي قد تستغرق حتى شهرين. وأدى ذلك إلى استياء عام بين العاملين في هذا القطاع، امتد من الطيارين حتى العاملين في نقل الحقائب، مروراً بموظفي أمن المطارات. والنتيجة لذلك مباشرة وسريعة، وهي مطارات مكتظة بمسافرين ألغيت رحلاتهم، وآخرين في طوابير طويلة في التفاتيش الأمنية، وغيرهم ممن فقدوا حقائبهم بسبب هذه الفوضى.
مثال آخر على ما يحدث في أوروبا، هو إضراب العاملين في السكك الحديدية في بريطانيا، هذا الإضراب هو الأكبر منذ ثلاثين عاماً، وسببه أن العاملين لم يحصلوا على أي علاوة منذ 3 سنوات، وحينما تقرر منحهم هذه العلاوة، جاءت أقل بكثير من التضخم الحالي. فالعلاوة تراوحت بين 2 و3 في المائة، بينما وصل التضخم في بريطانيا هذا الشهر إلى 9.1 في المائة، ويتوقع أن يصل إلى 11 في المائة في الشهور القليلة القادمة. وبقيادة من نقابة السكك الحديدية والنقل البحري والعام، قام نحو 40 ألف موظف بالإضراب عن العمل، فتوقفت القطارات عن العمل لثلاثة أيام، وتسبب ذلك في ازدحام الطرق وتعطل الأعمال. وحتى الآن تبدو هذه المشكلة بلا حل، بعد فشل المفاوضات بين النقابة وشركات السكك الحديدية.
اختيار توقيت هذه الاضطرابات لم يكن عبثاً، فالسياحة أحد أهم الروافد لأوروبا وبريطانيا، وعند تعطل المطارات ووسائل النقل فسوف يلغي العديد من السياح رحلاتهم للابتعاد عن هذه الاضطرابات، والبحث عن بلدان أكثر استقراراً وأقل مشكلات. وبينما كان العاملون في قطاع السياحة يأملون أن يعوّض هذا الصيف سنوات الجائحة التي انعدمت فيها السياحة تماماً، لا يبدو أن هذا الصيف سيكون مثالياً لهم في هذه الظروف، وتحت الضغوطات الاقتصادية التي يعاني منها العالم بأسره.
وما يزيد الطين بلة، أن هذه الإضرابات قد تكون مجرد بداية لسلسلة من الإضرابات التي قد تشهدها دول أوروبا في قطاعات أخرى، فالجميع يعاني من التضخم، والنقابات الأخرى بدأت في التصريح بأنها أحق بزيادة الرواتب، لكونها ساهمت بفعالية خلال الجائحة، ولم تجد التقدير الكافي بعدها، ومنها نقابات المعلمين والقطاعات الصحية. وفي حال لم تتمكن الحكومات الأوروبية من احتواء هذه الأزمة، فقد تتعرض لما تعرضت له في السبعينات الميلادية من تعطيل كامل للمنشآت والخدمات، وهي بكل تأكيد لن تستطيع تحمل ذلك؛ لا سيما في هذا التوقيت.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

عن فن الدوران في الحلقات المفرغة

لم تكتف التقارير العلمية الأخيرة الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيرات المناخ بالتحذير من خطورة استمرار انحراف العالم عن المسار المرسوم لتخفيض الانبعاثات المسؤولة عن رفع درجة حرارة الأرض فوق معدلاتها الحرجة، ولكنها قدّرت فجوات التمويل التي تواجه الدول النامية للتعامل مع تحديات المناخ. ولم تكن هذه التقارير العلمية هي الأولى لهذه الهيئة الدولية المشكّلة منذ عام 1988 من الهيئة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وتضم في عضويتها 195 دولة، فقد توالت تقاريرها السنوية منذِرة ومحذّرة من خطورة تغيرات المناخ.
وقد تبارى المتحدثون في مؤتمرات وندوات بكلمات عصماء، وغير عصماء، عن ضرورة احترام كلمة العلم واتخاذ إجراءات حاسمة تنقذ الأرض من مصير بائس لاحت نذره بشدة الأعاصير وانتشار الجفاف والتصحر وحدة الفيضانات وحرائق الغابات وتهديد المدن الساحلية بالغرق، رغم أن العالم لم تزد فيه سخونة الأرض بعد على 1.1 درجة مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، فما المصير إذا ما توالت ارتفاعات درجة حرارة الأرض فيما يتجاوز 1.5 درجة مئوية التي جعلها العلماء حداً فاصلاً لا يمكن تجاوزه حتى لا تزيد مهددات البقاء سوءاً؟ ورغم ذلك تستمر الانبعاثات الضارة بأنواعها وتزداد اطراداً، فبدلاً من تخفيض الانبعاثات الضارة وفقاً للتعهدات المبرمة بما لا يقل عن 45 في المائة حتى عام 2030 ترى الانبعاثات في ازدياد بنحو 14 في المائة بانحراف مزعج عن الهدف بمقدار 60 في المائة تقريباً.
وقد يذكر البعض الأزمة الأوكرانية وأن الحرب الضارية هناك قد جعلت العالم ينصرف عن تعهداته بما في ذلك اتفاق باريس لتغير المناخ المبرم في عام 2015؛ وفي هذا تضليل كبير؛ فالانحراف عن نهج التصدي لتغيرات المناخ والتقارير المشار إليها الصادرة في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) الماضيين ترصد كوارث محدقة بالمناخ سابقة على الكارثة الإنسانية التي تسببها الحرب التعسة في أوكرانيا. ولطالما علّقت خيبات كثيرة على مشاجب أزمات عالمية تلومها على تدهور الأحوال وكأن الأوضاع قبلها كانت على ما يرجى من عمل، وفي هذا تضليل كبير.
لا يمكن تجاهل الأثر السلبي للحرب في أوكرانيا على العمل المناخي. وفي تقديري، أن الحرب قد ولدت موجتين متعارضتين؛ الأولى، أحسب أنها قصيرة الأجل أو متزامنة مع تداعيات الحرب وآثارها على أسعار الطاقة والغذاء، وكان رد الفعل التلقائي هو السعي لتدبير الموارد من السلع الأساسية، وخاصة الوقود من أي مصدر وبأي سعر، وبهذا لجأت دول أوروبية مضارة لإعادة تشغيل محطات الكهرباء المعتمدة على الفحم، واعتبر الاتحاد الأوروبي الغاز الطبيعي مصدراً انتقالياً للطاقة بعدما كان منبوذاً، ورحب الاتحاد أيضاً بالطاقة النووية بعد عهد من التحذير من مخاطرها الأمنية، خاصة بعد كارثة فوكيشيما في اليابان في مارس 2011، ما دفع دولاً أوروبية مثل ألمانيا إلى إيقاف محطاتها النووية؛ مما زادها اعتماداً على الطاقة ذات المصادر الأحفورية المستوردة من الاتحاد الروسي.
أما الموجة الأخرى، المتولدة من الأزمة الأوكرانية، فهي السعي لتنويع مصادر الطاقة من حيث النوع والمصدر الجغرافي. وهو ما يعني مزيداً من الاستثمارات الأوروبية تحديداً في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. وقد تواترت الزيارات رفيعة المستوى من مسؤولي الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء وشركاتها، خاصة إلى الدول الأفريقية جنوب المتوسط موقّعة لمذكرات تفاهم وتمهد لتعاقدات في مجالات الهيدروجين الأخطر والطاقة الشمسية وطاقة الرياح ومد شبكات وكابلات نقل الكهرباء عبر البحر الأبيض المتوسط.
من دون تمويل كافٍ لن تجد أزمة المناخ حلاً وسيستمر الدوران في حلقات مفرغة. تظهر التقارير العلمية لعام 2022 المشار إليها في صدر هذا المقال إلى أن الدول النامية تحتاج إلى زيادة تمويل برامج التخفيف من الانبعاثات الضارة بالمناخ والتكيف مع تغيراته بما يقدر بنحو أربع إلى ثماني مرات عما كان عليه مستوى التمويل في عام 2019؛ أي أن عليها تدبير نحو 1.8 تريليون دولار و3.4 تريليون دولار سنوياً، أي بمتوسط 2.6 تريليون دولار بافتراض سلامة التقديرات للحد الأدنى والحد الأعلى. فمن أين سيأتي التمويل المجسِر لهذه الفجوات الهائلة؟ أفجوات بآلاف المليارات تكفيها المائة مليار الموعودة منذ كوبنهاغن في عام 2009 والتي لم تتدفق بالكامل من الدول المتقدمة إلى الدول النامية أبداً؟ وأفضل ما كان هو ما أُعلن في العام الماضي مقترباً من 80 مليار دولار بعلامات استفهام كبرى حول المنهج والتدفق الفعلي والأثر. وهذا مثال من أمثلة الدوران في الحلقات المفرغة: يُعلَن رقم من دون تدقيق للاحتياجات الفعلية المستقبلية، ويتصدر الرقم المشهد باعتباره إنجازاً غير مسبوق كما حدث في عام 2009، ويتبادل المؤتمرون التهاني كما كان أمرهم في كوبنهاغن، ثم تمر السنة تلو الأخرى في انتظار ما لا يأتي وإن أتى لا يأتي كاملاً، ثم تعدّ التقارير بمنهجيات متضاربة متسائلة ومستفسرة عما جرى، علماً بأن عشرة أمثال هذا الرقم لن تكفي لملء نصف فجوة التمويل السنوية للدول النامية.
ستة سبل متكاملة لإيقاف الدوران في حلقات مفرغة:
1- التزام الدول الواعدة بالمائة مليار الدولار بالوفاء بها: الالتزام بالمائة مليار الموعودة هو شرط لبناء الثقة قبل التبرع بوعود أخرى. فهذه المبالغ ليست هبة من أسخياء، ولكنها تأتي أولاً لاعتبارات العدالة والإنصاف لدول نامية لم تتسبب في أزمة المناخ، بل كانت وما زالت الأقل إضراراً والأكثر تضرراً، كما أنها تأتي ثانياً لتحفيز الدول النامية على استخدام تكنولوجيا أكثر توافقاً مع اعتبارات البيئة والمناخ والتي ستعود بالنفع أيضاً على دول متقدمة تحوز حقوق ملكية هذه التكنولوجيا، كما أنها تأتي ثالثاً لمنع ضرر محتمل على الدول الأكثر تقدماً إذا ما استخدمت الدول النامية تكنولوجيا أكثر ضرراً بالمناخ، أو لاعتبارات الآثار العكسية للتحول الأخضر في الدول النامية التي قد يترتب عليها مزيد من طلبات الهجرة أو النزوح اضطراراً لتداعيات المناخ.
2- استثمارات لا ديون: أمن العدل أن يُطلب من الجار الأفقر أن يقترض ليصلح داره لضرر أصابه عندما كان الجار الأغنى يشيّد قصره المنيف؟ فما بالنا والجار الأفقر مكبل بالديون قبل الجائحة وأكثر تكبيلاً بها بعدها، فازدادت خدمة الديون إرهاقاً له بعد ارتفاع معدلات التضخم واضطراب أسعار الصرف وزيادة أسعار الفائدة؟ لا سبيل إلا زيادة المنح والاستثمار وإن قصرت فقروض طويلة الأمد بفترات سماح ممتدة وتكلفة اقتراض زهيدة على أن تأتي مدعمة بمساعدات فنية وإمكانية تحفيز للقطاع الخاص بأن تستخدم هذه القروض الميسرة كرافعة للاستثمارات الخاصة ومحجمة لمخاطر التمويل.
3- دور القطاع الخاص: أُعلن في غلاسكو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 عن تجمع من 450 مؤسسة من كبرى المؤسسات التي تدير أصولاً مالية تقدر بنحو 130 تريليون دولار عن استعداده لتمويل مشروعات تحقق أهداف اتفاق باريس. وستعقد رئاسة القمة المصرية بالتعاون مع الأمم المتحدة ورواد المناخ خمسة ملتقيات إقليمية لبحث تمويل مشروعات المناخ والتعريف بفرص الاستثمار المتاحة في الدول النامية وتحفيز الإقبال عليها، خاصة في مجالات الطاقة وتخفيف الانبعاثات الكربونية وتطوير نظم التكيف مع تغيرات المناخ بالتركيز على قطاعات الزراعة والتصنيع الزراعي والمنتجات الغذائية. وستدعى هذه المؤسسات المالية وبنوك التنمية والشركات إلى هذه الملتقيات الخمسة وعرض نتائجها في قمة شرم الشيخ للمناخ.
4- تخفيض الديون: إذا أرادت مجموعتا الدول السبع والدول العشرين تحقيق فائدة مباشرة لاجتماعاتها هذا العام، فعليهما النظر في تبني آليات لتخفيض الديون المستحقة على الدول النامية بربطها ومبادلتها باستثمار في تخفيض الانبعاثات الضارة من خلال الإسهام في مشروعات التخفيف ونزع الكربون والاستثمار في الطاقة المتجددة، وكذلك في مشروعات التكيف وحماية التنوع البيئي. وقد قامت مؤخراً جزيرتا سيشيلز وبليز بعمليات لمبادلة الديون يمكن الاستفادة منها بزيادة حجم المعاملات وتخفيض تكلفة المعاملات بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية.
5- سوق الكربون: هناك ضرورة للدول النامية وأفريقيا خصوصاً في تأسيس سوق متكاملة للكربون تتوافق مع متطلباتها ويمنع استغلالها. فقد بلغ حجم سوق الكربون العالمية ما يتجاوز 850 مليار دولار في عام 2021، وفقاً لخبيري البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أهونا إزياكونوا وماكسويل جوميرا بزيادة 164 في المائة عن العام السابق. ولكن السوق شديدة التقلب وتتراوح أسعارها بين 10 دولارات و100 دولار للطن الواحد، وهناك ضرورة للتعاون الدولي في هذا الشأن بدايةً من البناء المؤسسي والتنظيمي وتدريب المهارات المطلوبة؛ مثلما فعلت أوروبا التي أسست نظامها في عام 2005 ثم تعاونت لاحقاً مع الصين ودول جنوب شرقي آسيا في تأسيس نظم تجارة الانبعاثات، مع السعي إلى تخفيضها وليس مجرد نقل حمل الانبعاثات من دولة إلى أخرى.
6- قبل هذا كله، هناك نقطة بداية للدول النامية للخروج من الدوران في هذه الحلقات المفرغة، وذلك بأن تحدد كل دولة أولوياتها بشأن إجراءات التصدي لتغيرات المناخ وتحقيق التنمية المستدامة في بنود موازناتها العامة، فترصد لها من الإنفاق العام ما يمكنها من إيراداتها العامة، وتعطي الإشارات من خلالها للاستثمارات الخاصة لمجالات المشروعات وتحفيزها، وتستقبل بكفاءة التدفقات المالية الدولية وتوظفها بفاعلية، وتخضع هذا كله لآليات الإفصاح والحوكمة والمحاسبة.

محمود محي الدين

الانسياق خلف المشاهير

 

الممثل الأميركي المشهور مات ديمون سوّق في 28 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي للعملات المشفرة، في إعلان مدفوع لموقع Crypto.com. وقرن ديمون الاستثمار بالعملات المشفرة بأحداث وشخصيات غيّرت مجرى العالم مثل اختراع الطائرة، واستكشاف الفضاء، في رسالة واضحة إلى أن المخاطرة تؤتي أُكلها، وأن الطموحات تحتاج للإقدام، مختتماً الإعلان بمقولة «الثروة تفضّل الشجعان». ما لم يذكره ديمون أن المخاطرات غير المدروسة تُفقر كذلك، فمن انساق خلفه في هذا الإعلان المدفوع خسر إلى اليوم أكثر ثلثي استثماره، ففي تاريخ الإعلان كان سعر «بتكوين» أكثر بقليل من 60 ألف دولار، وانخفضت الآن إلى مستويات دون 20 ألف دولار.
والدروس هنا واضحة، وإن كان الكثير لا يحب الاستماع لها، وهي لا تتعلق بأي حال بأسواق العملات المشفرة فحسب، بل تشمل الاستثمار بشكل عام. أول هذه الدروس هو عدم الانسياق خلف هذه الإعلانات لأسباب منها أن أمثال ديمون لا يفقهون في الاستثمار البتة. فإسداء النصائح في الاستثمارات التقليدية (مثل أسواق الأسهم) صعب للغاية على المتخصصين، حتى مع وجود بيانات تاريخية ومنمذجة اقتصادياً توضح سلوك السوق والمستثمرين وتقارنه بعدد ضخم من العوامل الاقتصادية والسياسية وغيرها. إن كان هذا هو الحال في أسواق الأسهم، فماذا عن العملات المشفرة وهي التي لم يتضح حتى الآن سلوكها، وهي التي تتأثر بتغريدة من إيلون ماسك!
ثانيها أن الاستثمارات الخطرة لا تناسب الجميع واتّباع المشاهير فيها مغامرة، فالمشاهير يملكون أموالاً طائلة (تبلغ ثروة ديمون 170 مليون دولار)، ونسبة استثماراتهم الخطرة قد لا تُذكر من محفظة استثمارية ضخمة يملكونها، وفي حال خسارة هذه النسبة فهم يتقبلونها بالنظر إلى مدى خطورة الاستثمار. هذا الأمر قد لا ينطبق بكل حال على صغار المستثمرين الذين باندفاعهم قد يضخّون أموالاً قد تسوء حياتهم إن خسروها.
ثالثها أن هذه الإعلانات مدفوعة الثمن، والنصوص المكتوبة فيها مدروسة بعناية، ويحفظها المشهور عن ظهر قلب تماماً كما يحفظ نصوص الأفلام والمسلسلات، لتوضح وجهة نظر المُعلن. والشركات المعلنة تحرص على أن تقال هذه الكلمات من المشاهير لقبولهم وتأثيرهم لدى الناس. وأوضحت دراسة نُشرت هذا الشهر أن المستثمرين في أسواق الأسهم يتأثرون بشكل كبير بإعلانات المشاهير، ويعدّون هذه الإعلانات إشارات من الشركات إلى مستقبل الشركة. ولذلك فإن التشريعات المالية في الكثير من الدول تمنع هذا النوع من الإعلانات للشركات المدرجة. فإذا كان الأمر كذلك في أسواق الأسهم وهي التي تحكمها القوانين لحماية المستثمرين، فماذا عن العملات المشفرة التي تكاد تنعدم فيها قوانين حماية المستثمر.
رابعها، إدراك ما في هذه الإعلانات من تعارض للمصالح، فالإعلان عن منتج يختلف تماماً عن الإعلان عن استثمار، ففي الأول يحصل المشهور على ثمن الإعلان دون أي مكاسب أخرى على الأغلب، أما في الإعلان عن الاستثمار فإن المشهور قد يستفيد من ضخ أموال المتأثرين بهذا الإعلان، ولو اشترى المشهور العملة المشفرة أو السهم قبيل الإعلان وكان أثر الإعلان إيجابياً فإنه سيستفيد بكل تأكيد من ارتفاع سعر العملة أو السهم. ولذلك فإن الكثير من الدول تفرض على المشاهير الإفصاح عن المصالح قبل الإعلان، كانت الهند آخر هذه الدول حيث أقرت هذا الإفصاح الأسبوع الماضي ضمن إصلاحات قوانين حماية المستهلك.
خامسها أن الإعلانات عن الاستثمارات محط شك في الكثير من الحالات، فتباين المعلومات بين المستثمرين هو أحد أهم أسباب تحقيق الأرباح، ولو كانت المعلومة متوفرة لجميع المستثمرين لاختلفت الربحية كثيراً. والفرص الاستثمارية لا تتوفر معلوماتها في الإعلانات المصوّرة، ولا يتم تلميعها كما حدث في إعلان ديمون.
الإعلانات قوت المشاهير، وفيما غصّت مواقع التواصل الاجتماعي بالشماتة بالممثل ديمون، موضحين أن من أخذ بالإعلان خسر ثلثي استثماره. فإن ديمون قد قبض بالفعل ثمن الإعلان، ولم يتضرر من انهيار العملات المشفرة إلا إذا كان قد استثمر فيها بالفعل. وفيما قد تعود العملات المشفرة للارتفاع مرة أخرى، مظهرةً ديمون في موقف المنتصر، فإن هذا الانتصار معنوي لا يغيّر شيئاً في حقيقة أن من أخذ بنصيحته خسر الكثير من المال. والأمر لا يتعلق بانخفاض أو ارتفاع العملات المشفرة، فهذه تقلبات السوق التي تحدث بين الحين والآخر والتي ينتفع منها مستثمرون ويخسر منها آخرون. بل يتعلق بالاستفادة من هذا الدرس الذي وضّح أن إعلانات المشاهير يجب ألا تكون أبداً عاملاً للدخول في الاستثمارات.

 

د. عبد الله الردادي

الطاقة على مفترق طرق: تغير الأولويات

صدر عن دورية «فورين أفيرز» مقال يشرح بإسهاب التحولات الكبرى في أولويات سياسات الطاقة على ضوء حرب أوكرانيا، بالذات بروز أولويات الحرب وأمن الطاقة المحلي لتشارك أهمية التغير المناخي.
تمت كتابة المقال من قِبل جاسون بوردوف، مساعد الرئيس باراك أوباما لشؤون الطاقة والتغير المناخي في مجلس الأمن القومي الأميركي خلال عهد الرئيس أوباما ومؤسس ورئيس مشارك لمركز دراسات سياسات الطاقة الدولية في جامعة كولومبيا؛ وميغن أوسيلفان أستاذة العلاقات الدولية في معهد كيندي في جامعة هارفرد وكاتبة في شؤون الطاقة.
لماذا مفترق طرق؟ لقد حولت الحرب أولويات الدول والرأي العام. فهناك مخاوف رجال الأعمال من احتمال اضمحلال نظام العولمة والولوج في مرحلة من الكساد التضخمي. ويتخوف الأكاديميون العودة إلى الحروب لحل النزاعات السياسية في ظل عودة الصراع الغربي – الشرقي من جهة وتقوية اواصر العلاقات ما بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى.
كما تراجع معظم الدول، على ضوء الحرب، مختلف سياساتها: التجارية والموازنات والتحالفات العسكرية.
وضع بند أمن الطاقة ضمن أولويات الساسة، إلى جانب مكافحة التغير المناخي.
ومن المتوقع، أن يشكل هذان البندان تحولاً في تطلعات الدول نفسها؛ إذ ستولي الدول اهتماماً أكثر بمشاكلها الداخلية والمحلية، كما ستولي الاهتمام والأولويات لإنتاج الطاقة المحلي والتعاون الإقليمي خلال المسيرة المرحلية لتحقيق تصفير الانبعاثات.
سيؤدي هذا التحول في الأولويات والاهتمامات إلى انكماش الدول في تكتلات جغرافية وسياسية. الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تفكك عصر تحالفات الطاقة العالمية القائم حالياً.
السؤال «كيف ستتجاوب الدول مع التحديات الجديدة الناتجة من غزو روسيا لأوكرانيا؟ فمن خلال هذا التجاوب سيتبلور نظام الطاقة الجديد لعقود مقبلة».
تشكل النتائج المترتبة على الحرب: انهيار العولمة وبروز القومية الاقتصادية؛ وغموض نظام الطاقة المقبل لكثير من المراقبين. كما يتوقع تضخم دور الحكومات في قطاع الطاقة الجديد بحجم وشكل غير مسبوق.
فبعد أربعة عقود من المحاولات والسياسات لتخفيض دور الحكومات في قطاع الطاقة، نجد اليوم أن الحكومات الغربية تعترف بالحاجة إلى لعب دور واسع في جميع مراحل الطاقة من تشييد البنى التحتية للوقود الأحفوري، إلى تبني السياسات الدقيقة للتأثير على شركات الطاقة لتقليص الانبعاثات من خلال تسعير الكربون، ومراجعة مدى الدعم الحكومي للشركات لتبني الطاقات المستدامة، وتحديد القواعد والمقاييس التي يتوجب تبنيها في إنتاج الطاقة.
يتوقع الكاتبان أن تتحول أزمة الطاقة الناتجة من الحرب إلى «أسوأ أزمة طاقة منذ نصف قرن»، لكن هناك فروقاً مهمة عن أزمة الطاقة في السبعينات. إذ يعتمد الاقتصاد العالمي اليوم على كثافة طاقة أقل. فقد سبق النمو الاقتصادي نمو استهلاك الطاقة، بحيث إن العالم يستعمل اليوم طاقة أقل لكل وحدة من ناتج الدخل القومي.
كذلك، تزايد كثيراً عدد الشركات في أسواق النفط عن الماضي من ثم يتم توزيع النفط اليوم من قِبل شركات عدة، وليس حفنة منهم، كالسابق.
والأهم، أن أزمة الطاقة الحالية أبعد وأهم بكثير من النفط. فانعكاساتها أوسع على الاقتصاد. فالحرب تضع بصماتها على مختلف أنواع الطاقة؛ مما سيخلق فوضى كبرى. فروسيا ليست فقط واحدة من أكبر الدول المصدرة للنفط الخام والمنتجات البترولية عالمياً، لكن هي أيضاً أهم مصدر للغاز الطبيعي لأوروبا، كما أنها مصدرة مهمة جداً للفحم الحجري واليورانيوم المنخفض التخصيب الذي يستعمل لتوليد المحطات النووية، هذا بالإضافة إلى سلع تجارية أخرى.
لقد ارتفعت أسعار الفحم والبنزين والديزل والغاز الطبيعي وسلع أخرى، من ثم ستؤدي عراقيل أخرى لإمدادات الطاقة الروسية، إما بمبادرات روسية أو أوروبية، إلى التضخم، والكساد، وتوزيع الطاقة من خلال نظام الحصص التموينية، وإغلاق بعض الشركات.
عانى نظام الطاقة العالمي من الضغوط قبل الحرب. فقد واجهت أوروبا ومناطق أخرى تحديات عدة للحصول على طاقة كهربائية وافية. فقد كانت إمداداتهم الرئيسة من الكهرباء تأتي من إمدادات متقطعة من طاقة الشمس والرياح.
كما عانت بعض شركات الكهرباء سنوات من الخسائر والضغوط المترتبة لمكافحة التغير المناخي، بسبب تخفيض الاستثمارات في الصناعات الهيدروكربونية؛ مما أدى إلى تقليص الامدادات.
وأدى كذلك التأخير والتعديل في سلسلة الإمدادات التجارية العالمية بسبب جائحة «كوفيد – 19» إلى الشح في بعض السلع والضغوط على الأسعار. ففي عام 2021 وأوائل 2022، أدى ازدياد الطلب الضخم للغاز والارتفاع العالي للأسعار إلى إفلاس بعض شركات الطاقة وإجبار الحكومات زيادة دعمها لقطاع الكهرباء.
وكان من المحتمل أن تسوء الأمور لولا ارتفاع درجات الحرارة في حينه إلى أكثر من المعتاد؛ مما ساعد أوروبا وآسيا على تقليص الطلب قليلاً.
ساءت الأمور أكثر منذ نشوب الحرب. فتقلصت إمكانيات توفير القروض؛ مما قلص بدوره السيولة اللازمة لتجارة النفط؛ مما أدى بدوره إلى تحديات بالغة الصعوبة، منها ارتفاع أسعار النقط والغاز إلى معدلات عالية جداً.
رغم كل هذا، فالأسوأ قد لا يزال أمامنا. فالطلب على النفط قد يرتفع مع التخلص من الجائحة في الصين وإنهاء الإغلاقات التامة هناك.
ورغم أنه من الصعوبة تصور حظر أوروبي شامل على النفط والغاز الروسي، فإن الاحتمال وارد. لقد فاز الفحم في هذه المعركة. فالصين بصدد زيادة إنتاجها للفحم الحجري.
والاقتراح، في ظل الأزمات المتتالية، إعادة تقييم الدروس المستخلصة. دور الحكومات والقطاع الخاص، فالاعتماد على قوى السوق قد حافظ على توفير الإمدادات بأسعار معقولة طوال الـ40 سنة الماضية.
لكن الأزمة الحالية تستدعي دوراً أكبر للحكومات «لتجنب بعض إخفاقات السوق». ومن المتوقع في نظام الطاقة المقبل أن يكون «دور وتدخل الحكومات بحجم غير مسبوق في التاريخ المعاصر».

وليد خدوري

عندما يجتمع التضخم مع الركود الاقتصادي

تداولت وسائل الإعلام مصطلح (Stagflation)، ويعني التضخم المصحوب بالركود، وهو مصطلح تمت صياغته ليكون مرادفاً للزيادات المزدوجة في الأسعار، وفقدان الوظائف، وصور السيارات المصطفة في طوابير محطات البنزين. وبينما يشير المصطلح إلى الزيادة الحادة بالأسعار مع فقدان الوظائف، استخدم الاقتصاديون هذا المصطلح على نطاق أوسع إشارةً إلى الفترة التي يستمر فيها التضخم أعلى من هدف البنوك المركزية، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على النمو الاقتصادي.
وأعطى البنك الدولي صورة داكنة للاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة في تقريره الصادر الأسبوع الماضي، وتوقع البنك أن يتراجع النمو العالمي إلى 2.9% في عام 2022، بعد أن بلغ 5.7% في عام 2021، كما يتوقع أن ينخفض مستوى دخل الفرد في الاقتصادات النامية هذا العام بنسبة 5%. وفي الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن يتباطأ النمو من 5.1% إلى 2.6%، أما في الاقتصادات النامية والناشئة، فقد ينخفض النمو من 6.6% إلى 3.4%، وهو أقل بكثير من متوسط العقد الماضي والذي وصل إلى 4.8%. وتوقع البنك الدولي أن ينخفض التضخم العام المقبل، ولكنه سيبقى أعلى من مستهدفات التضخم في الكثير من الدول، وقد يؤدي استمرار التضخم إلى انكماش الاقتصاد العالمي. ومعدلات التضخم المرتفعة تضر بالاقتصاد لكونها تضغط على ميزانيات الأفراد والأسر مما يجعلها تقلل الإنفاق الاستهلاكي، مما يُضعف النشاط الاقتصادي ويبطئ من نمو الشركات (هذا إن نَمَت)، وكذلك تراجع أرباحها.
هذا هو التضخم الأكثر حدة منذ أربعة عقود، مما جعل الكثير يقارنونه بالركود الذي حدث في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي، حيث تضاعفت معدلات البطالة في الولايات المتحدة وأوروبا، وبلغ التضخم حينها 14%. وتتشابه هذه الحالة مع السبعينات في ثلاثة جوانب رئيسية: الأول، هو الاضطرابات المستمرة في جانب العرض، وهو ما يغذّي التضخم بشكل واضح. هذا النقص تمثل في عدد من الأشكال، منها الجائحة وكيف أثرت على سلاسل التوريد العالمية، ومثالها الأقرب هو نقص الرقائق الإلكترونية. كذلك اضطراب إمدادات الطاقة بفعل الحرب الروسية الأوكرانية. ولعل ما جعل الكثير يربطون هذا الزمن بالسبعينات هو نقص إمدادات النفط آنذاك بفعل حظر عدد من الدول العربية للنفط، هذا الاضطراب شبيه لما أحدثته الحرب الروسية – الأوكرانية من هزة لأسواق الطاقة العالمية. السبب الثاني للتشبيه بالسبعينات هو السياسة النقدية التيسيرية التي تبعت الجائحة لتنشيط الاقتصادات المتقدمة، فسهّلت الكثير من الدول القروض بخفض أسعار الفائدة لتنشيط الاقتصاد بعد الجائحة، وأسهم ذلك في زيادة التضخم. أما الثالث فهو هشاشة بعض الأسواق الناشئة والتي تضررت بشكل كبير بفعل بسبب تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة.
وما يدعو للتفاؤل أن البنوك المركزية استفادت من دروس السبعينيات، فهي الآن تملك مستهدفاً واضحاً للتضخم بعكس السبعينات وتسعى للوصول لهذه المستهدفات من خلال سياساتها النقدية. كما أن الحكومات أصبحت أكثر قدرة بالمساهمة بتخفيف معدلات البطالة من خلال خلق استثمارات لتوفير الوظائف. والحكومات على استعداد للمكافحة حتى لا تصل إلى الحالة في السبعينات الميلادية حيث دخل الكثير من الدول في دوامات لسنوات طويلة لم يستطع بعضها حتى الآن في الخروج منها.
إن تخفيف ضغوط التضخم قد يكمن في حلّين رئيسين: الأول هو حل عقبات سلاسل التوريد والذي يقلل التكاليف على المنتجات والمواد الغذائية والوقود ويجعلها أكثر وفرة، وبالتالي أقل سعراً. ولا يبدو الحل لهذه العقبات في الأفق حتى الآن، فلا تزال الصين حتى الآن تعاني من تفشي فيروس «كورونا»، ولا يزال نقص الأيدي العاملة يشكّل تحدياً للموانئ والمخازن. ولذلك فإن البنوك المركزية لجأت إلى الحل الآخر وهو رفع سعر الفائدة لتقليل الطلب من الشركات والمستهلكين. وحتى الآن فقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة المستهدف مرتين، وأعلن عن رفعه لمرة ثالثة قبل أيام، ومن غير المستبعد أن يرفعه مرتين أخريين بنهاية هذا العام. وعلى الرغم من أنه حل مثبت للتحكم بسعر التضخم، فإن رفع سعر الفائدة بهذا الشكل قد يتسبب في القضاء على النمو والوصول إلى ركود، وهي معضلة قد يستعصي على بعض الحكومات حلها.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

حتى تحل شرم الشيخ معضلات «دافوس»

وجد من قصدوا دافوس لاجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد منذ أيام، اختلافات كثيرة عما عهدوه من قبل. وأبسط هذه الاختلافات ما كان في موعد انعقاده، ليصبح هذه المرة في مايو (أيار) من ربيع العام، بدلاً من يناير (كانون الثاني) في ذروة شتائه كما جرت العادة في منتجع التزلج الجبلي السويسري، الذي ظل محتضناً اجتماعات المنتدى لعقود متوالية كأحد أهم فعالياته منذ تأسيسه منذ أكثر من نصف قرن.
وكان من التعليقات اللاذعة المتهكمة ما استمعت إليه من بعض شباب المشاركين في الاجتماعات، أن استمرار التدهور في أوضاع المناخ سيجعل ما نراه في مايو هو الطقس المعتاد لدافوس في يناير بلا جليد، أو تساقط للثلوج حتى في فصل الشتاء بفعل سخونة الأرض. فوفقاً للتقارير العلمية التي كثرت الإشارة إليها لسنا على المسار المطلوب للمحافظة على درجة حرارة الأرض لدرجة ونصف مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، كحد قرره العلماء لاستمرار الحياة وأسباب المعيشة، وإن كان سيصاحب هذا المستوى التي يطمح العالم إليها بمخاطر أشد مما نعايشه الآن ونحن لم نتجاوز بعد 1.1 درجة مئوية، مثل شدة الفيضانات وانتشار حالات الجفاف وحرائق الغابات والتصحر وتآكل الشواطئ.
ومن الاختلافات ما عكسته أغلفة المطبوعات المنتشرة في أروقة المنتدى ومداخل فنادقه وقد غلبت عليها عناوين الأزمات والتوترات الجيوسياسية: فبعنوان «العالم بعد الحرب» ظهرت مجلة الشؤون الدولية (فورين أفيرز) وعلى غلافها علم أوكرانيا كاسياً مجسم الكرة الأرضية إلا قليلاً منها، تعبيراً عن مدى الحرب وتأثيراتها؛ وأرادت مجلة السياسة الخارجية (فورين بوليسي) أن تتميز فجاءت عناوين غلافها بتركيز على «منافسة القرن» وتقصد بها المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف يريان بعضهما بعضاً قبيل الزيارة الآسيوية للرئيس الأميركي بايدن. ولكن أكثر الأغلفة إثارة للهلع العام ما كان من غلاف مجلة «الإكونوميست» البريطانية التي جعلت صورة غلافها التي بدلت حبات سنابل القمح بجماجم بشرية صغيرة تحت عنوان «كارثة الغذاء القادمة».
وجاءت في العموم الإصدارات الأفريقية والآسيوية أكثر اهتماماً ببراغماتية عن النواحي العملية للخروج من الأزمات.
وكانت أزمات الطاقة والغذاء والاقتصاد – خاصة فيما يتعلق بالتضخم ومخاطر الديون الدولية ومخاوف الركود مسيطرة على الجلسات، ولكن غلب على النقاش تداعيات الأزمات الجيوسياسية والحرب الأوكرانية.
وفي تقديري، أنه إذا عقدت المقارنات بين أداء القيادات الدولية ومجموعات عملها المنخرطة في مجموعات الدول السبع الصناعية، وكذلك مجموعة العشرين إبان الأزمة المالية العالمية في 2008 وما صحبها ثم تلاها من أزمات في أسعار الغذاء والطاقة ستجد أداءً أفضل في مواجهة الأزمة وتعاوناً فعالاً.
ورجوعاً إلى أزمة الغذاء الراهنة بين ارتفاع أسعاره وتكاليف نقله وتأمين شحناته، وشح كمياته المفترض تدفقها إلى مناطق تعاني من الجفاف؛ فإن التهوين من نسبة الاقتصادين الروسي والأوكراني في الاقتصاد العالمي وأنهما مجتمعين لا يشكلان أكثر من 4 في المائة من ناتجه، لا يتناسب معه ما كان اشتعالاً في الأسعار بعد الحرب. ولهذا تفسير بأن رغم الصغر النسبي للبلدين، فإن مساهماتهما في قطاعي الطاقة والغذاء كبيرة. فأوكرانيا تصدر وحدها 17 مليون طن من القمح بما يعادل 9 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية، وتتركز أسواقها في بلدان محددة، ولكن مع ذلك كيف يسبب ارتباك تصدير نسبة تقل عن 10 في المائة من سلعة من إجمالي سوقها إلى هذه الأزمة الدولية الطاحنة؟ هذا يرجع إلى طبيعة الاقتصاد السياسي السائد قبل الأزمة الأوكرانية في عالم يشهد حالة أقرب هي للمعترك الدولي من التعاون الدولي.
قيود على التجارة الدولية فرضها ترمب تشديداً على من سبقه، واستمرت بعده على منتجات الصين، وشل لحركة منظمة التجارة الدولية، وإجراءات حمائية شتى يفرضها أطراف التجارة على بعضهم بعضاً دون اكتراث لتعهدات دولية من باب الضرورات المبيحة للمحظورات حتى استشرى الحظر على حدود من تشدقوا بمبادئ حريات التجارة لما أتت الحريات بما لا يشتهون، وإن كانت بسلع ذات جودة وأرخص سعراً. ويذكرك ذلك بمقولة الكاتب الإنجليزي الآيرلندي أوسكار وايلد عن أن المبادئ لا يجب أن تغيرها الظروف، ولكنه منسوب له أيضاً ساخراً بأن لديه مجموعة من المبادئ كلما ضاق بها أتى بغيرها. فأي أوسكار وايلد تصدق: الحكيم أم الساخر؟
وحتى لا تحتار كثيراً، فالمعاملات الاقتصادية المستندة إلى قواعد يحدد قواعدها تلك الطرف الأقوى دائماً، مع إخراج مقنع بعدالتها وترك بعض المكاسب بتفاوت للآخرين من أطراف اللعبة حتى تستمر المباراة. أما إذا احترف الضعفاء قواعد اللعبة وشرعوا في تحقيق مكاسب فقد يتسامح صاحب قواعد اللعبة في بداية الأمر مظهراً إيمانه بقواعدها، متشدقاً بعدالته، فإذا ما استمر في الخسارة سرعان ما حاول تبديل القواعد سعياً لاستعادة المكاسب القديمة، ولكن هيهات. فهذا ليس كلعب الأطفال لكرة القدم في الأزقة والحواري، فيأتي صاحب الكرة ليختار لاعبي الفريقين ويضم نفسه إلى الفريق الأفضل ويختار جانب الأرض الأنسب، وربما يكون هو الحكم في غياب الحكم، فإذا انتصر استمر مهللاً، وإذا خسر ضاق باللعب وأخذ كرته وانصرف للعب بها مع آخرين.
وما حدث من أزمة غذاء أشد شراً؛ فمع اضطراب خطوط الإمداد الأوكرانية تناست الحكومات قواعد حرية التجارة فاتخذت 26 دولة إجراءات بحظر التصدير وفقاً لتحليل الاقتصادي المرموق كوشوك باسو، الذي عمل مستشاراً لحكومة الهند وكبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي؛ مسبباً ذلك ارتفاعات متوالية للأسعار بسبب داء التخزين وحكر البضاعة عن البيع مسببة سلوكاً مماثلاً لدى التجار والأفراد بتخزين البضاعة طمعاً في سعر أعلى، وخوفاً بلا مبرر فعليّ من نفادها؛ فنفادها نتيجة لأفعالهم.
ويذهب باسو في مقال أخير إلى أن تجربة الهند داخلياً بتنظيم أسواقها وتشريعاتها بما غير سلوكيات ضارة مثل التخزين والاحتكار، قد يستفاد منها عالمياً بإيجاد نظام ملزم للتعاون الدولي مساند بإجراءات قانونية وآليات اقتصادية لتوفير الغذاء ومنع المجاعات. وضرب مثلاً آخر بتعديل دستور الولايات المتحدة ليسمح بوجود مصدات مضادة للأزمات الغذائية في الولايات الأميركية وعبرها. ولعلك تجد في هذه الاقتراحات مثالية استفادت من أعمال الاقتصادي الهندي أمارتيا سن، الحائز جائزة نوبل، في دراساته عن المجاعة البنغالية التي حدثت في الأربعينات من القرن الماضي. وللأسف، لا أرى إرادة سياسية متوفرة في المجتمع الدولي تنتقل بهذه الأفكار إلى حيز التنفيذ، فالمتاح حالياً بما وصلنا إليه من وهن في التعاون السياسي الدولي هي إجراءات الحد الأدنى المانعة مزيداً من الانهيار الذي قد يطال من يظنون أنهم في منعة من شرور الأزمات.
ولكن، هناك ما يدعم هذا التوجه عملياً في إطار اتفاق باريس لعام 2015 وتعهدات موقّعيها الملزمة للتصدي لتغيرات المناخ، بمساندة دولية تدفع بطموحاتها همة المطالبين بحقوقهم في مناخ آمن وبيئة نظيفة من الأجيال الشابة ومنظمات المجتمع المدني وسائر الأطراف غير الحكومية بما في ذلك القطاع الخاص والشركات والمؤسسات المالية.
ومن الموضوعات التي تحظى بمساندة من رئاسة قمة شرم الشيخ القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) قضايا التغذية والغذاء. فهناك 800 مليون إنسان محروم من الغذاء بما يتناقض مع الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة. وهناك 76 في المائة من العالم يعتمدون في غذائهم على محاصيل زراعية تهددها تغيرات المناخ، فضلاً عن تغيرات في نوعياتها بسبب زيادة الانبعاثات الكربونية. يدعونا هذا إلى تبني مشروعات مشتركة في مجالات الزراعة والتغذية والطاقة وإدارة المياه، بما يحول الأفكار القيمة إلى استثمارات مجدية وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً في جلسات متخصصة تسبق قمة شرم الشيخ، التي تتبنى شعاراً عملياً وهو «معاً نحو التنفيذ»، فبعد تكرار على مدار سنوات طوال لتعهدات ووعود آن وقت تفعيلها على الأرض بما يحميها وينفع عموم الناس.

د. محمود محي الدين

الدولار والذهب والنفط وتداعيات الحرب

العلاقة بين أسعار الذهب والنفط والدولار وثيقة، إذ إنه كلما ارتفعت أسعار النفط، زاد في المقابل سعر الذهب، بينما يرتبط سعر الذهب بعلاقة عكسية مع الدولار، ويرتبط النفط والدولار بعلاقة عكسية، كما توجد علاقة متينة بين الذهب والنفط، وهذه العلاقة نتجت عن ارتباطهما بالدولار، ومن ناحية أخرى سعر النفط له علاقة بإنتاجية معظم السلع، لأنه يمثل جزءاً من مكونات التكلفة الأساسية لأي سلعة. وتتميز العلاقة بين النفط والذهب بأنها طردية، وصعود أسعار النفط يؤدي إلى ارتفاع حصيلة الدخل، ويمكن القول إن العلاقة بين النفط والذهب علاقة منطقية، فارتفاع أسعار النفط يُحدث زيادة في أسعار الذهب. على النقيض من العلاقة بين النفط والذهب، العلاقة بين الذهب والدولار علاقة عكسية، يمكن أن نسميهما مادتين بديلتين. فعندما يزداد الطلب على إحداهما ينقص سعر الأخرى.
هذه البداية وجدتها ضرورية لفهم طبيعة العلاقة بين الدولار والنفط والذهب والانعكاسات على الاقتصاد العالمي في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل هيمنة روسيا وأوكرانيا على إنتاج وتصدير الغاز، وهذه العلاقة فتحت آفاقاً واسعة أمام روسيا لاستخدامها في المناورة في التعامل مع هذه الحرب. في ظل الجهود الدولية التي تحاول النهوض من تداعيات انتشار فيروس كورونا، واستعادة نشاطها الاقتصاديّ، جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتفرض واقعاً جديداً، إذ مع استمرار هذه الحرب وتداعياتها في ظلّ حالة عدم اليقين الجيوسياسي، تزداد عمليّات هروب المُستثمِرين من الأسهم والأصول الخطرة، واندفاعها نحو الديون السيادّية التي يرونها مضمونة على الرّغم من وجود مخاطر قليلة، ولذلك يبرز الذهب الأكثر أماناً كملاذٍ للمُستثمِرين والمُدّخرين.
دَخل الذهب بقوّة في حروبٍ عالميّة للتجارة والعملات، وتداعياتها على سعر النفط، كونه سلعة استراتيجيّة على مستوى الاقتصاد العالمي. وتمّ التركيز على الذهب لأنه ملاذ آمن للمُستثمِرين ومدّخراتهم، وكذلك لاحتياطات الدول في مصارفها المركزية، في ظلّ توتراتٍ جيوسياسيّة واضْطراباتٍ أمنيّة في مناطق عدّة من العالم. إذا كان للذهب أهميته، ويتمّ شراؤه كسلعة فاخرة وزينة للرفاهيّة الاجتماعيّة، فجاذبيّته الكبيرة لدى المُستثمِرين، تكمن في النظرة إليه كسلعة استراتيجية، ومن أكثر الأصول التي تلعب أدواراً أساسيّة في أي محفظة استثمارية.
إذا كان شراء الذهب يمثِّل الخيار المُفضَّل للمُستثمِرين عند حصول ارتباك في أسواق الأسهم والنفط، لتفادي توظيف السيولة في تلك الأسواق، وما يحيط بها من خسائر ومخاطر، كما حدث خلال الأزمة الاقتصادية العالميّة عام 2008، وأزمة تفشّي وباء «كورونا» عام 2020. فإنّ كلّ التوقّعات اليوم تبقى رهينة متغيّراتٍ عسكرية وسياسيّة واقتصادية، في ضوء مستقبل تداعيات الحرب في أوكرانيا ومدّتها، إضافة إلى مَساراتٍ تتعلّق بالملفّ النووي الإيراني. وأيضاً يرتبط مُستقبل الذهب بمتغيّراتٍ تفرضها طريقة تعامُل المصارف المركزية مع الأزمة، والخيارات المرتبطة بأسعار الفوائد وسياسات التيسير المالي. وفي سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، قرَّرت روسيا الهروب من العملة الأميركيّة في علاقاتها الدوليّة وتعاملها المالي والمصرفي، ووجدت في الذهب ملاذاً آمناً لمُدّخراتها.
ووفق الإحصاءات الرسميّة، تتكوَّن الاحتياطيّات الروسيّة من صناديق العملات الأجنبيّة وحقوق السحب الخاصّة مع صندوق النقد الدولي والذهب، وقد بلغت قبل الحرب نحو 643.2 مليار دولار، ولكنّها انخفضت بحلول 25 مارس (آذار) إلى 604.4 مليار دولار، ومن الطبيعي أن يستخدم هذا الاحتياطي في تمويل الإنفاق الروسي العامّ، وبخاصّة الإنفاق الدفاعي وما تقتضيه متطلّبات الحرب مع أوكرانيا. وإذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة ودول الاّتحاد الأوروبي وجَّهت ضربة قوّية للاقتصاد الروسي، وجمَّدت نحو 300 مليار دولار من احتياطه النقدي، فإّنها لم تستهدف بشكلٍ مباشر احتياطي الذهب، لذلك تسعى أميركا وحلفاؤها إلى تشديد الخناق المالي على روسيا، وإصدار قانون يمنعها من التصرُّف في السيولة الموجودة في خزائنها، بما فيها استخدام الذهب، ويستهدف كذلك الأطراف التي تساعد روسيا في تمويل حربها من خلال شراء أو بيع الذهب، ومع تراكُم التداعيات السلبيّة للعقوبات وخسائر الحرب، بدأ سعر الروبل يتراجع حتّى وصلَ إلى نحو 150 مقابل الدولار الواحد، وفَقَدَ بذلك نصف قيمته، ولكنّ موسكو ردَّت بخطّة دفاعيّة، شملت سلسلة إجراءات وضوابط ماليّة، أهمّها الحدّ من خروج الأموال والاستثمارات الأجنبيّة، إضافة إلى إجراءَين. أولهما، دفْع ثمن مبيعات النفط والغاز بالروبل، والثاني إعلان بنك روسيا المركزي عن ربط الروبل بالذهب.
وهكذا يكون الروبل قد حقق بعض التقدم في مرحلة الدفاع عن قيمته أمام الدولار ولو بحدودٍ معيّنة، لكنّ احتمال انتقاله إلى مرحلة تحدّي الدولار هو أمرٌ مُستبعَد كلّياً لصعوبة تحقيقه، وخصوصاً أنه وفق الحسابات المالية، لا يوجد حالياً أي عملة قادرة على استبدال الدولار المُسيطِر على النظام المالي العالمي، وهو سلاح بوجه الدول التي تتحدّاها، وهي لا تزال قائدة للاقتصاد العالمي ومَصدراً رئيساً للسيولة العالميّة. وربّما يكون البديل تكتُّل قوى اقتصادية عالميّة مُتّحدة تواجِه النظام القائم، فهل يستطيع تكتُّلُ دول «البريكس» الذي يضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وُيمثّل 24 في المائة من الناتج المحلّي العالمي، أن يقود أحلافاً تجارّية عدّة إلى إنشاء آليّات دفع خاصّة بها، وأن تكون مستعدّة للقيام بتبادُلاتها التجارية بالعُملات المحليّة.
حاولت مجموعة البريكس بمُبادراتٍ لفكّ الارتباط بالدولار، مثل الصين التي أصدرت منذ سنوات قليلة عقوداً آجلة للنفط مقوَّمة باليوان ونظام تحويلات لليوان عبر الحدود، كما أسست روسيا نظاماً يوازي نظام «سويفت»، ونظاماً آخر خاصاً بالروبل. إنّ كلّ هذه الإنجازات محاولة للخروج العالمي عن هَيمنة الدولار. وفي ظل التحديات التي تواجها أميركا من خلالها الدولار، فإن التساؤلات ما زالت تطرح حول وضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، وهل سيمكن الاحتفاظ بذلك أمام مجموعة من العملات المنافسة الأخرى، العملة الأوروبية (اليورو)، العملة الصينية (اليوان)، نظام حقوق السحب الخاصة والعملات المشفرة الافتراضية. إن صعود الصين واستمرار عجز أميركا عن معالجة الاختلالات الاقتصادية الكبيرة، سيجعل المستقبل بالتأكيد متعدد الأقطاب، خاصة في ظل التزام الصين والعمل على أن تكون قوة عالمية بحلول عام 2050 واستمرارها في تحقيق نمو اقتصادي قوي وممارسة مزيد من نفوذها الاقتصادي في الخارج وبشكل خاص مع مجموعة البريكس (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا)، إذ استفادت روسيا في حربها مع أوكرانيا من خلال مجموعة البريكس ودعم الصين الاقتصادي لها، الذي لا يظهر بشكل واضح للعيان، ومن خلال تراجع فرنسا وألمانيا عن الاعتراف الفوري لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والناتو وخضوعهما لسلسلة إجراءات قد تأخذ سنين لإكمال مراحل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فهذا يعزز من الموقف الاقتصادي والعسكري لروسيا على حساب أوكرانيا.
وفي الختام، إن هيمنة الدولار على العملات ليست حتمية في ظل المنافسة بين الدولار والذهب والنفط والغاز؛ حيث إن الحفاظ على وضع الدولار يحتاج إلى إرادة سياسية واقتصادية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة في عالم اليوم، من قبل أميركا، لتخفيض العجز المالي والتجاري، والحكمة في التعامل مع النزاعات والحروب التي تحدث في العالم، ومنها الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الصراعات، بجانب هذا، أدت المرونة التي تعاملت بها روسيا مع العلاقة التفاعلية بين الدولار والذهب والنفط والغاز، إلى تحييد مواقف دول مهمة مثل ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الدول التي بقيت على الحياد أو مع روسيا في التعامل بالملف الاقتصادي والمالي بالضد من أميركا وبعض حلفائها الغربيين.

د. ثامر محمود العاني

* أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد، مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية سابقاً