من الواضح انّ صندوق النقد الدولي يحاول جاهداً إبرام عقد مع الدولة، ولكن هذا الإنجاز المبدئي مع بعثة الصندوق وليس مع إدارة الصندوق، تصحبه إجراءات وشروط مسبقة تحتوي على فجوات كبيرة، ووعود من دولة فاقدة الصدقية.
انّ محاكاة الصندوق تركّز في الدرجة الاولى على إدارة الخسارة بدلاً من ان تتجّه نحو الإجراءات التي تؤدي الى تعافي الاقتصاد واستعادة الثقة. انّ الاعتقاد السائد انّ صندوق النقد هو المخلّص والمنقذ للأزمة هو محض افتراض وهمي، وقد ساهم في تأجيل الإصلاح. الحاجة الماسة هي في التوصل الى حل يحافظ على إدخار المواطن وليس هدمه، لأنّ المواطن هو عماد الوطن وليس السلطة. ويتوجب على السلطة وصندوق النقد ان يلتزما الشفافية التامة، وان يبتعدا عن أسلوب إمرار القوانين والتشريعات تحت شعارات زائفة.
تُطالعنا الحكومة والصندوق انّهما ينويان توزيع الخسائر بنحو عادل، ولكن قوام العدل عندهما يخضع للمساومة والاستنسابية، ويبدو في نظرهما تكريماً للمذنب واتهاماً للبريء. ويتابع صندوق النقد الدولي، انّ توزيع الخسائر هو أحد ركائز الحلول المهمة للجهاز المصرفي وللأزمة المالية. وانتاب المواطن الغضب والرعب، لأنّ مؤسسة دولية مثل صندوق النقد، تقف الى جانب سلطة تُعتبر من الأفسد في العالم، ويطلب شروطاً مسبقة تخدم المصارف والسلطة وليس المواطن. انّ الاتفاق المبدئي يشكّل شهادة إبراء للسلطة كونها تستهدف تحميل عبء تكلفة الإصلاح على المواطن.
إنّ التعداد لثمانية إجراءات مسبقة في الاتفاق بين بعثة الصندوق ورئيس الحكومة لن تؤدي الى تعافي الاقتصاد، وستكون لها آثار مغايرة، واهمها تدهور الثقة واستمرار الكساد. إذ لم يؤخذ في الاعتبار: المعرفة المحدودة بالإصلاح، غياب الرغبة والقدرة على إصلاح السلطة.
انّ اهم الإجراءات المقترحة تتمثل بتحميل معظم الخسارات للمواطن، واستمرار تعدّد أسعار الصرف وتنفيذ قانون «الكابيتال كونترول» الذي سيقمع الاستثمارات الخاصة. انّ الضوابط على تدفقات رأس المال الخارجية تساهم في الحدّ من الانضباط المالي والنقدي، وتؤدي إلى تشوهات تؤثر سلبًا على النمو والتوظيف، وتثبط الاستثمار، وترفع تكاليف التمويل، وتحدّ من تدفقات رأس المال من الخارج. كما انّ القانون المقترح في حدّ ذاته ينبع من مفهوم سوء تصوره. إنّه مزيج غريب من القيود المفروضة على عمليات سحب الودائع المصرفية والرقابة على تدفقات رؤوس الأموال الخارجية ومعاملات الحساب الجاري. وغالبية الاقتراحات المتبقية تتكون من استراتيجيات وقوانين وليست إجراءات فعلية. وهي كفيلة بلجم الاقتصاد ولا تبني قاعدة للنمو، كما أنّها لا تبني الثفة، وستهدم الركائز الأساسية للاقتصاد اللبناني.
انّ شطب الودائع كحلّ يدل في وضوح الى انّ الحكومة تفتقد الرؤية الصحيحة للإصلاح. فشطب 72 مليار دولار على الأقل من الودائع من خصوم ميزانية المصارف سيقابله شطب موازٍ من أصول المصارف والتزامات مصرف لبنان ودين الدولة. المصارف رحّبت به، فقد اعلنت انّها تؤيّد الاتفاق المبدئي مع بعثة الصندوق لكونها بُرأت من ديونها.
ولأننا لا نملك ترف الوقت، كما تردّد الحكومة، فعليها عدم الانتظار والتحلّي بالجرأة والقيام فوراً بالآتي:
التحرير الكامل لسعر الصرف، ولهذا الإجراء وقع مباشر وايجابي وأهمه، انّه:
– يوحّد الدولار المصرفي القديم والجديد حسب سعر السوق، ويُنهي هذه البدعة التي تستهدف شطب الودائع.
– يحلّ أزمة الودائع. فالتحرير سيسمح السحب من الودائع بالدولار بالليرة اللبنانية حسب سعر السوق.
– يُحسّن أداء ميزان المدفوعات، وخصوصاً في السلع والخدمات البديلة.
– يدعم الإدخار وكذلك الاستثمار للقطاع الخاص.
– يدعم النمو الحقيقي في كل القطاعات وخصوصاً قطاعات إنتاج السلع البديلة للمستوردات.
– يحسّن الوضع المالي للدولة لأثره المباشر على زيادة الإيرادات.
– يخفّض الدين العام المطلق.
– يوقف الدعم غير المباشر من خلال تعدّد أسعار الصرف.
– يؤدي الى توقف تدهور سعر الصرف، وإلى ثبات الاسعار.
– يعيد الثقة للجهاز المصرفي إذا أدركت المصارف كيف تتعامل مع المودعين.
– يحدّ من مسؤولية مصرف لبنان وحصرها في مجال السياسة النقدية وتجريده من الاستنسابية في تسعير الليرة.
إنّ خروقات المصارف المتعددة للقوانين واستهتارها بالمودعين لن تعيد الثقة مرة أُخرى ولن تكون سهلة المنال.
إنّ اتباع سياسة موازنات متوازنة سيكون لها أثر ايجابي:
– تساهم في دعم التوازن لميزان المدفوعات.
– تحسين القدرة على استمرارية خدمة الدين.
– توقف الهدر في القطاع العام وتحسّن انتاجية القطاع الخاص ونموه.
ـ إعادة جدولة كل الاصول والخصوم المالية للقطاع العام والخاص، وهذا ينظم القطاع المالي ويعيد الثقة اليه، وينهي ضرورة وضع قيود على انتقال رؤوس الاموال ويوفر بديلاً عادلاً لشطب خصوم واصول المصارف.
ـ البدء في تخصيص القطاع العام ما ينهي الفساد المستشري في هذا القطاع الذي ساهم بمقدار كبير في تراكم الدين وتدهور الاقتصاد، فتصبح ملكيته للمواطنين على نطاق واسع، (ولا يكون احتكاراً للأغنياء)، من خلال سرد أسهمه في بورصة بيروت، مع وضع حدّ أقصى للملكية الفردية. ومن يعتقد انّ الدولة يجب ان تحتفظ بالقطاع العام يكون قد تجاهل او دعم سوء الادارة والفساد السائدين فيه منذ عقود.
اما الانتظار غير المؤكّد حتى التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على 850 مليون دولار سنوياً لأربع سنوات، فستكون تكلفته باهظة جداً وعلى حساب المواطن.
د. منير راشد محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية