الأفراد والشركات والاقتصادات والبلاد محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية للإستمرار

الإقتصادات العالمية تغيّرت بعد الحرب العالمية الثالثة، ضدّ الوباء ولا سيما جائحة «كوفيد-19». فلم يُبلسم العالم بعد جروحاته إزاء التغيّرات الكبرى التي واجهت الشعوب والشركات والاقتصادات. إذ فوجئنا بحرب عالمية رابعة باردة ناجمة عن الحرب الساخنة بين روسيا وأوكرانيا، والتي سيكون لها أبعاد وتغيّرات اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية هائلة.

إنّ هذه التغيّرات الكبرى التي ستحصل في العالم ككل سيكون لها تأثير مباشر، على الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان. لذا إنّ المجتمعات اليوم محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية في معرفتها، وخبراتها، وأفكارها وابداعاتها وابتكاراتها، وحتى في طريقة عملها واستراتيجياتها وخططها. فنقاط القوة التي كانت تملكها لم تعد صالحة، لمواجهة هذه الأزمة الراهنة. فكل فرد، أكان طالباً أو ريادياً، أم رجلاً أو سيدة أعمال، أو موظفاً، بات محكوماً بمراجعة مسيرته وإعادة بناء ذاته من جديد، في ظل هذه الانقلابات الكبرى.

 

أما الشركات الخاصة في كل دول العالم فباتت محكومة أيضاً بإعادة الهيكلية الداخلية، لمتابعة مسيرتها وتمويل وتطوير أعمالها، وتنويع سلعها، وأسواقها، وتغيير رؤيتها وإستراتيجياتها. فلم يعد ممكناً أن تتكل هذه الشركات القائمة على أمجادها الماضية وقدرتها وتقدّمها السابق، والتي لم تعد صالحة في هذا العالم الإقتصادي الجديد. فكل المؤسسات اليوم محكومة بتغيير مسيرتها ونظرتها وخططها، لتتماشى مع هذا التغيير، للتطوير والإنماء من جديد على أسس حديثة.

 

أما الإقتصادات، فهي أيضاً تحت المجهر، وفي عين العاصفة، ومجبرة على إعادة الهيكلية الداخلية والخارجية لمواجهة هذا التسونامي العالمي. فعليها إعادة النظر في كل الاتفاقات الدولية السابقة، أكانت تجارية أو صحية، أو مالية، أو نقدية، وحتى سياسية وأمنية وثقافية. فيوماً بعد يوم تتغيّر أسس التبادل التجاري، وسلاسل التوريد، حول الكرة الأرضية. فالاقتصادات محكومة بتغيير نهجها وإستراتيجياتها حيال ارتفاع أسعار النفط، وكل المشتقات النفطية، لذا عليها إعادة النظر في تمويل اقتصاداتها وتمويل سيولتها التشغيلية.

 

أما البلدان والسياسات فهي أيضاً محكومة بإعادة النظر في استراتيجياتها ونظرتها ورؤيتها وحتى في تحالفاتها، لمواجهة هذه التغيّرات القائمة. فمن بعد مواجهة جائحة كورونا وتوقيف عقارب الكرة الأرضية لنحو سنتين، إستيقظت على حرب جديدة وتضخّم مخيف، وارتفاع في كلفتها التشغيلية، لذا عليها مواجهتها على كل الأصعدة، وعلى جبهات عدة، أكانت صحية، أو اقتصادية، أو تجارية أو صناعية، أو معيشية. فكل مؤسساتها وقطاعاتها في ظلّ العاصفة محكومة بإعادة الهيكلية، لمتابعة أعمالها.

 

في الخلاصة، شئنا أم أبينا، إنّ التغيير حاصل، ولا نستطيع مواجهته، لكن علينا أن نتماشى معه، ونستخرج الأفضل عوضاً عن التمسّك بالماضي، والترحّم على الأمجاد. لذا نكرّر ونشدّد على أنّ الأفراد والشركات والاقتصادات والبلدان، باتت محكومة بإعادة الهيكلية الداخلية وإعادة النظر في رؤيتها وإستراتيجياتها، لاحتضان هذا التغيير، واستخراج الأفضل منه.

د. فؤاد زمكحل

إقتصاد لبنان إلى الدولرة الشاملة

أكثر من عامين ونصف مرّت على بدء الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعصف بلبنان. أزمة اشتدت بعد امتناع الدولة اللبنانية عن سداد ديونها في آذار من العام 2020، في ظل شحّ مقلق للسيولة، لم يقتصر على العملات الأجنبية وإنما طال ايضاً الليرة اللبنانية.

في المؤشرات الاقتصادية والقطاعات الانتاجية هناك انهيار شامل. حجم الاقتصاد اللبناني تقلّص من حدود 60 مليار دولار في العام 2018 إلى أقل من 20 ملياراً في العام 2021، أي بثلث الحجم السابق.

 

البطالة سجّلت مستويات تُعتبر قياسية عالمياً، فانتقلت من مستويات تتحرّك بين 20% و25% إلى أكثر من 50% في العام 2022. كذلك ازداد معدل الفقر وأصبح يطال اكثر من 70% من اللبنانيين بحسب التقرير الأخير الصادر عن البنك الدولي.

 

إنهيار ترافق مع تخبّط مستمر من قِبل الدولة اللبنانية، خصوصاً سلطتها التنفيذية، أي الحكومة كما المجلس النيابي، الغارق في دراسة مشاريع قوانين، بدءاً من مشروع «الكابيتال كونترول» الذي طُرح منذ اكثرمن عامين ولم يُقرّ حتى اليوم، مروراً بقانون السرية المصرفية وصولاً الى خطة التعافي.

 

‏وما فاقم الخسائر أكثر، قرار إهدار اكثر من 25 مليار دولار من الاحتياطات من العملات الأجنبية في مصرف لبنان منذ بدء الأزمة وحتى اليوم، تحت راية دعم المواد الأساسية، والتي تبين انّها أُهدرت لصالح التهريب وتنفيع كبار التجار.

 

اما اليوم، فيبقى السؤال الأهم عن مستقبل الاقتصاد؟ ماذا يخبئ الغد للمواطن اللبناني الذي أنهكته الأزمة وسرقت تعبه وشقاه وقدرته على العيش الكريم؟ هل من حلول؟ هل وصلنا إلى القعر؟

 

‏الجواب غير سهل. وإنما المؤشرات واضحة. فبحسب الواقع المالي والأرقام التي يمكن يمكن البناء عليها، فإنّ الاقتصاد اللبناني سوف يتجّه إلى الدولرة بشكل كامل مع نهاية هذا العام، خصوصاً انّ المتابعة تشير الى انّ سعر صرف الدولار سوف يحلّق ويبقى مرتفعاً، ولا يمكن وضع سقف له في ظل شح العملات الاجنبية المتبقية في مصرف لبنان التي تُقدّر باقل من 8 مليارات دولار حالياً.

 

‏بداية الدولرة ستنطلق من القطاع الخاص، حيث سنشهد وقريباً، تحوّل تسديد رواتب الموظفين في القطاع الخاص الى الدولار الفريش، بعدما كانت تُدفع بالليرة لبنانية او بشيكات مصرفية أو بالدولار ‏المحلي. وإنما التسديد لن يكون كاملاً. فتراجع حجم الاقتصاد وقيمة العملة المحلية سيلقي بظلاله على الرواتب والاجور التي ستُسدّد نقداً، ولكن بنسبة قدرها 35% من قيمتها الاصلية بالدولار في العام 2019، اي إذا كان الموظف يتقاضى مليوناً ونصف مليون ليرة لبنانية في العام 2019، والتي كانت توازي 1000 دولار اميركي في ذلك الحين، فهو سوف يتقاضى اليوم ولنفس العمل 350 دولاراً أميركياً.

 

إلى الرواتب ستطال الدولة ايضاً الخدمات. فالتصحيح سيطال الاقتصاد بكافة قطاعاته. ‏وفي مثال على ذلك القطاع التربوي، الذي سيتحول بدوره الى الفريش دولار. فإذا كان قسط المدرسة في السابق يعادل 9 ملايين ليرة لبنانية أي 6000 دولار بحسب السعر الرسمي قبل الأزمة، فسيتحول القسط المدرسي الى 2000 دولار فريش، أي ثلث ما كان عليه في السابق…

 

معادلة الثلث التي ستحدّد الواقع الاقتصادي الجديد للبنان ستستمر لبضع سنوات، وهي مرشحة للارتفاع سنوياً من 35% في العام 2022 إلى 45% في العام 2023، إلى 55% في العام 2024، وإلى 65% في العام 2025. ولكن الاقتصاد لن يعود الى التوازن، أي إلى نسبة 100% قبل العام 2030 وذلك في افضل الاحوال.

 

غياب الدولة عن مسؤولياتها والتخبّط والفشل بإدارة الملفات كبّدت الاقتصاد واللبنانيين خسائر سيصعب تعويضها. ولا سبيل اليوم للحدّ من المعاناة الاجتماعية الاّ عبر الاعتراف اولاً بالواقع الاقتصادي ومشكلاته، ثم الانتقال بالفعل وليس بالقول نحو الاقتصاد المنتج، عبر العمل على زيادة الانتاج المحلي والتصدير الخارجي، كخطوة لا بدّ منها لإطلاق عجلة الاقتصاد، عبر استعادة الوظائف كما إدخال العملة الاجنبية الى البلد.

د. باسم بواب