عندما هدد الرئيس الأميركي جو بايدن روسيا «بفرض عقوبات شديدة وقيود على الصادرات» في حالة غزوها لأوكرانيا، لم يكن هذا إجراءً مستغرباً فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية وضعاً افتراضياً معتاداً للسياسة الخارجية الأميركية مع كل أزمة دولية.
ويبدو أن الرئيس الروسي بوتين قد أدرج هذا في حساباته قبل الحرب فبلاده كانت بالفعل هدفاً لعقوبات، ولم يبالِ بالتهديد بأن العقوبات الجديدة ستكون أشد عنفاً من تلك التي طُبقت بعد أزمة جزر القرم في عام 2014؛ وهو ما حدث بالفعل ولم تكفِ العقوبات المشددة في الردع أو عدم تصعيد العمليات العسكرية. ولم تكن هذه حالة استثنائية لعجز العقوبات عن تحقيق أهدافها الأمنية أو العسكرية بمنع الحرب، فيذكر محلل السياسات الدولية جوشوا كيتينغ أن سجل العقوبات به خليط من الإخفاق والنجاح، وهي إلى الإخفاق أقرب حيث لم تحقق نجاحاً إلا في 33% من الحالات.
ويُرجع المؤرخون أول استخدام للعقوبات إلى عهود الإغريق، إذ أشار لها المؤرخ اليوناني القديم ثوكيديدس في فرض أثينا حظراً على تجارة مدينة ميجارا في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما رجع إليه المؤرخ الأميركي نيكولاس مدلر في كتابه الصادر قبل حرب أوكرانيا بأسابيع تحت عنوان «السلاح الاقتصادي وزيادة استخدام العقوبات كأداة في الحروب الحديثة». ويفرق مدلر بين العقوبات الحديثة وتلك القديمة بأنها، كما حدث في أثناء الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستند إلى القانون الدولي وأعرافه وكثيراً ما استخدمتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم – الكيان الأممي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأنهته فعلياً الحرب العالمية الثانية. ووصف الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العقوبات الاقتصادية المضمَّنة في المادة السادسة عشرة من اتفاق عصبة الأمم بأنها من شأنها «أن تسبّب ضغوطاً تفوق قدرة أي دولة حديثة على تحملها».
ونجحت هذه العقوبات في بعض الحالات مثل إنهائها الغزو اليوناني للأراضي البلغارية في العشرينات من القرن الماضي. ولكنها فشلت في منع القوات الفاشية بقيادة موسيليني من غزو إثيوبيا في الثلاثينات، بل جعلته يتقرب من ألمانيا بقيادة حاكمها النازي هتلر. ومع فشل العقوبات الاقتصادية في ردع موسوليني، فما عساها تفعل قبال هتلر وأطماعه الأوروبية أو لتحجيم اليابان بمنعها في الاستمرار في غزو الصين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية فلم يكن أمام التحالف إلا الإذعان لما يحدث من عدوان أو إعلان الحرب، وهو ما كان في نهاية الأمر بما خلفته من ضحايا ودمار.
ويحدد المؤرخ الشهير بول كينيدي، مستعيناً بكتاب السلاح الاقتصادي، ثلاثة دروس تزداد فيها احتمالات فاعلية العقوبات: 1) ألا تكون ناعمة كأنها تُظهر مجرد عدم رضا عن الفعل، بل يجب أن تكون مُنزلة لألم شديد بالخصم. 2) أن تكون ذات ستار حديدي خالٍ من الثغرات التجارية والمالية وبلا أي استثناءات. 3) ألا يتمتع الخصم خلالها بسند من قوة أو قوى اقتصادية تمده بما يحتاج. ولهذا نجحت العقوبات الاقتصادية تاريخياً في حالات التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الهشة أو شديدة الانكشاف الاقتصادي باعتمادها على الخارج. ولكن الدول ذات الاقتصادات الأكبر لن يلحقها الأذى إلا وقد مس خصومها أذى مثله. وهو ما حذّر بوتين بايدن من حدوثه في لقائهما الافتراضي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر الفيديو بأن إقناع الأوروبيين بعدم الإسهام في خط غاز «نورد ستريم الثاني» لا يخيفه بل سيؤذي حلفاء أميركا.
ويبدو أن الاستخدام المعاصر للعقوبات الاقتصادية، بوصفها أدوات أنعم من العتاد الحربي، جعل الخطوط الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم مبهمة باستخدام متكرر لأدوات من شأنها إلحاق دمار بالإمكانيات والأنشطة الاقتصادية، بل بحياة الناس أنفسهم، في وقت قد يعرف اسماً بالسلم لغياب حرب تقليدية معلنة.
كثيراً ما يترتب على القرارات بما في ذلك إجراءات العقوبات الاقتصادية في حالتنا هذه نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وقد أشرت من قبل على صفحات هذه الجريدة الغراء إلى أنه في أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن عدّه مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجماً وضرراً ما كان مستهدفاً منها.
ويذكر روبرت مرتون، الباحث في علم الاجتماع، في مقال نشره عام 1936 خمسة أسباب للوقوع في فخ النتائج غير المقصودة للقرارات:
1) الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور في البيانات والمعلومات أو لضعف القدرة على التحليل.
2) الخطأ في المعالجة لنقصٍ في الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار.
3) الاستناد إلى بعض المثل والمبادئ الأساسية التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها في إطار من التوازن والاعتدال.
4) الرغبة الملحّة في تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمداً عن أي آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح وكأنه قد قرر تجاهل أي أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره.
ومما لم تتناوله الحوارات مع إرهاصات الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، الأثر على الأطراف الثالثة أو ما يشبه إبان الأزمات الكبرى الأبرياء المتفرجين على سباق محتدم بين متصارعين رُعُن، فيطولهم الأذى بما يطيش من سلاحهم دون اكتراث. أما الأبرياء المقصودون هنا فهم أهل الدول النامية، وفي مقدمتها دول عربية وأفريقية، فقد ساء تقدير أثر قيام حرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين لا يتجاوز إسهامهما في الاقتصاد العالمي 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة في قطاعات الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة فضلاً عن تأثيرهما في السياحة الدولية. وتأتي هذه الحرب بمربكاتها مع وضع اقتصادي عالمي هش يعاني أصلاً، بسبب الجائحة وتداعياتها، من تراجع في معدلات النمو والتشغيل وزيادات في التضخم لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود وديون خارجية تعتلي موجاتها بمخاطرها ما سبق من موجات انتهت كل واحدة منها بأزمة عالمية مشهودة.
– آثار ممتدة لتسليح أدوات الاقتصاد وتلغيم قنواته
ورغم أن العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك الموصوف منها بالذكاء، لم تحقق أهدافها المعلنة بكفاءة ما زال هناك من ينادي بها مثلما فعل الديمقراطيون في الكونغرس الأميركي بمطالبتهم بفرض عقوبات اقتصادية ضد الكيانات التي تهدد المناخ، أو ما كان من مطالبة باستخدام عقوبات دولية ضد من يحجب معلومات عمّا يهدد الصحة العالمية كالأوبئة. ويجعل مثل هذا التخوف من احتمالات استخدام عقوبات اقتصادية خطراً متزايداً، بما يضطر المسؤولين في دول مختلفة إلى اللجوء إلى بدائل، سواء لتحويل الأموال، وهو ما يجري فعلاً في الصين من خلال نظامها للتحويل المصرفي عبر الحدود والذي تطور منذ أزمة القرم بمنع روسيا من استخدام نظام «سويفت»؛ وكذلك إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار بعيداً عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية.
هذا فضلاً عن البحث كذلك عن عملات دولية بديلة للدولار الأميركي، فرغم انخفاض نسبته في الاحتياطيات الدولية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 60% حالياً، فما زال الدولار يحظى -حتى الآن- بما وصفه الرئيس الفرنسي ديستان بـ«امتياز سخي» كعملة دولية يتمتع مصدرها بأن يشارك في سداد ديونه كل من يحمل عملته. ولكنْ هناك آثار على النظام النقدي الدولي من خلال التوسع في العملات الرقمية للبنوك المركزية بما في ذلك من الصين كـأكبر دولة نصيباً في التجارة العالمية، ومع حالة الاستقطاب الدولي بين نظامين في الشرق والغرب، تزداد الآراء المرجحة لتراجع هيمنة الاقتصاد الأميركي ومن ثم عملته خاصة، بما جعل زانغ يانلينغ، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لبنك الصين، تقول لمستمعيها في محاضرة، أشارت إليها صحيفة «الفاينانشيال تايمز» في تحقيق عن مستقبل الدولار الشهر الماضي، إن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية الدولار في الأجل الطويل، وتبشر مستمعيها بالبزوغ الدولي للعملة الصينية اليوان وبأن «الصين ستساعد العالم في التخلص من الهيمنة الدولارية أقرب من المتوقع». أي إنه بعد عهد من «الدولرة» قد يأتي عهد «اليوننة»، نسبةً إلى اليوان!
عادةً ما يستمر وصف الترتيبات النقدية والمالية المعمول بها بأنها تخدم المتعاملين بها والمستفيدين منها على نحو جيد، حتى يتم استبدالها! فتحل محلها ترتيبات جديدة تتوافق مع المستجدات في عالم شديد التغير.
د. محمود محيي الدين