متابعة قراءة البطالة بمنطقة اليورو تسجل انخفاضًا غير مسبوق في مارس إلى 6.8%
الأرشيف الشهري: مايو 2022
البطالة تتراجع بألمانيا في شهر أبريل مع انحسار قيود الجائحة
الذهب يصعد بعد تراجعه إلى أدنى مستوى في شهرين ونصف
وول ستريت تغلق مرتفعة بعد تعاملات متقلبة قبل اجتماع مجلس الاحتياطي الاتحادي
الخزانة الأميركية تتوقع استمرار نمو الاقتصاد في 2022 رغم انخفاض الناتج المحلي للربع الأول
استراتيجية “الصندوق”: إغراء الحكومة بـ 3 مليارات مقابل شطب 72 مليار دولار من الودائع
من الواضح انّ صندوق النقد الدولي يحاول جاهداً إبرام عقد مع الدولة، ولكن هذا الإنجاز المبدئي مع بعثة الصندوق وليس مع إدارة الصندوق، تصحبه إجراءات وشروط مسبقة تحتوي على فجوات كبيرة، ووعود من دولة فاقدة الصدقية.
انّ محاكاة الصندوق تركّز في الدرجة الاولى على إدارة الخسارة بدلاً من ان تتجّه نحو الإجراءات التي تؤدي الى تعافي الاقتصاد واستعادة الثقة. انّ الاعتقاد السائد انّ صندوق النقد هو المخلّص والمنقذ للأزمة هو محض افتراض وهمي، وقد ساهم في تأجيل الإصلاح. الحاجة الماسة هي في التوصل الى حل يحافظ على إدخار المواطن وليس هدمه، لأنّ المواطن هو عماد الوطن وليس السلطة. ويتوجب على السلطة وصندوق النقد ان يلتزما الشفافية التامة، وان يبتعدا عن أسلوب إمرار القوانين والتشريعات تحت شعارات زائفة.
تُطالعنا الحكومة والصندوق انّهما ينويان توزيع الخسائر بنحو عادل، ولكن قوام العدل عندهما يخضع للمساومة والاستنسابية، ويبدو في نظرهما تكريماً للمذنب واتهاماً للبريء. ويتابع صندوق النقد الدولي، انّ توزيع الخسائر هو أحد ركائز الحلول المهمة للجهاز المصرفي وللأزمة المالية. وانتاب المواطن الغضب والرعب، لأنّ مؤسسة دولية مثل صندوق النقد، تقف الى جانب سلطة تُعتبر من الأفسد في العالم، ويطلب شروطاً مسبقة تخدم المصارف والسلطة وليس المواطن. انّ الاتفاق المبدئي يشكّل شهادة إبراء للسلطة كونها تستهدف تحميل عبء تكلفة الإصلاح على المواطن.
إنّ التعداد لثمانية إجراءات مسبقة في الاتفاق بين بعثة الصندوق ورئيس الحكومة لن تؤدي الى تعافي الاقتصاد، وستكون لها آثار مغايرة، واهمها تدهور الثقة واستمرار الكساد. إذ لم يؤخذ في الاعتبار: المعرفة المحدودة بالإصلاح، غياب الرغبة والقدرة على إصلاح السلطة.
انّ اهم الإجراءات المقترحة تتمثل بتحميل معظم الخسارات للمواطن، واستمرار تعدّد أسعار الصرف وتنفيذ قانون «الكابيتال كونترول» الذي سيقمع الاستثمارات الخاصة. انّ الضوابط على تدفقات رأس المال الخارجية تساهم في الحدّ من الانضباط المالي والنقدي، وتؤدي إلى تشوهات تؤثر سلبًا على النمو والتوظيف، وتثبط الاستثمار، وترفع تكاليف التمويل، وتحدّ من تدفقات رأس المال من الخارج. كما انّ القانون المقترح في حدّ ذاته ينبع من مفهوم سوء تصوره. إنّه مزيج غريب من القيود المفروضة على عمليات سحب الودائع المصرفية والرقابة على تدفقات رؤوس الأموال الخارجية ومعاملات الحساب الجاري. وغالبية الاقتراحات المتبقية تتكون من استراتيجيات وقوانين وليست إجراءات فعلية. وهي كفيلة بلجم الاقتصاد ولا تبني قاعدة للنمو، كما أنّها لا تبني الثفة، وستهدم الركائز الأساسية للاقتصاد اللبناني.
انّ شطب الودائع كحلّ يدل في وضوح الى انّ الحكومة تفتقد الرؤية الصحيحة للإصلاح. فشطب 72 مليار دولار على الأقل من الودائع من خصوم ميزانية المصارف سيقابله شطب موازٍ من أصول المصارف والتزامات مصرف لبنان ودين الدولة. المصارف رحّبت به، فقد اعلنت انّها تؤيّد الاتفاق المبدئي مع بعثة الصندوق لكونها بُرأت من ديونها.
ولأننا لا نملك ترف الوقت، كما تردّد الحكومة، فعليها عدم الانتظار والتحلّي بالجرأة والقيام فوراً بالآتي:
التحرير الكامل لسعر الصرف، ولهذا الإجراء وقع مباشر وايجابي وأهمه، انّه:
– يوحّد الدولار المصرفي القديم والجديد حسب سعر السوق، ويُنهي هذه البدعة التي تستهدف شطب الودائع.
– يحلّ أزمة الودائع. فالتحرير سيسمح السحب من الودائع بالدولار بالليرة اللبنانية حسب سعر السوق.
– يُحسّن أداء ميزان المدفوعات، وخصوصاً في السلع والخدمات البديلة.
– يدعم الإدخار وكذلك الاستثمار للقطاع الخاص.
– يدعم النمو الحقيقي في كل القطاعات وخصوصاً قطاعات إنتاج السلع البديلة للمستوردات.
– يحسّن الوضع المالي للدولة لأثره المباشر على زيادة الإيرادات.
– يخفّض الدين العام المطلق.
– يوقف الدعم غير المباشر من خلال تعدّد أسعار الصرف.
– يؤدي الى توقف تدهور سعر الصرف، وإلى ثبات الاسعار.
– يعيد الثقة للجهاز المصرفي إذا أدركت المصارف كيف تتعامل مع المودعين.
– يحدّ من مسؤولية مصرف لبنان وحصرها في مجال السياسة النقدية وتجريده من الاستنسابية في تسعير الليرة.
إنّ خروقات المصارف المتعددة للقوانين واستهتارها بالمودعين لن تعيد الثقة مرة أُخرى ولن تكون سهلة المنال.
إنّ اتباع سياسة موازنات متوازنة سيكون لها أثر ايجابي:
– تساهم في دعم التوازن لميزان المدفوعات.
– تحسين القدرة على استمرارية خدمة الدين.
– توقف الهدر في القطاع العام وتحسّن انتاجية القطاع الخاص ونموه.
ـ إعادة جدولة كل الاصول والخصوم المالية للقطاع العام والخاص، وهذا ينظم القطاع المالي ويعيد الثقة اليه، وينهي ضرورة وضع قيود على انتقال رؤوس الاموال ويوفر بديلاً عادلاً لشطب خصوم واصول المصارف.
ـ البدء في تخصيص القطاع العام ما ينهي الفساد المستشري في هذا القطاع الذي ساهم بمقدار كبير في تراكم الدين وتدهور الاقتصاد، فتصبح ملكيته للمواطنين على نطاق واسع، (ولا يكون احتكاراً للأغنياء)، من خلال سرد أسهمه في بورصة بيروت، مع وضع حدّ أقصى للملكية الفردية. ومن يعتقد انّ الدولة يجب ان تحتفظ بالقطاع العام يكون قد تجاهل او دعم سوء الادارة والفساد السائدين فيه منذ عقود.
اما الانتظار غير المؤكّد حتى التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على 850 مليون دولار سنوياً لأربع سنوات، فستكون تكلفته باهظة جداً وعلى حساب المواطن.
د. منير راشد محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية
تباين أداء الأسهم الأوروبية في ختام أولى جلسات مايو مع صدور بيانات اقتصادية
الدولار يرتفع مقتربًا من أعلى مستوياته في 20 عامًا واليورو يتراجع
هبوط أسعار النفط بسبب مخاوف بشأن النمو الاقتصادي في الصين ومع دراسة الاتحاد الأوروبي حظر النفط الروسي
تراجع سعر الذهب بسبب ضغوط ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأمريكية وترقب اجتماع لمجلس الاحتياطي
في التقدم: مربكات ومسارات
في أقل من عامين ترى العالم وهو يواجه عاصفة كاملة تلو الأخرى، فجاءت العاصفة الأولى في أعقاب إعلان منظمة الصحة العالمية في الحادي عشر من مارس (آذار) 2020، أن تفشي فيروس كورونا المستجد المسبب لمرض «كوفيد – 19» قد وصل إلى مستويات الجائحة العالمية. ومنذ هذا التاريخ أصابت «كورونا» أكثر من 500 مليون إنسان بالمرض، توفي منهم ما يزيد على 6.2 مليون حول العالم، وكانت أكثر الإصابات والضحايا ارتفاعاً في الولايات المتحدة يليها الهند والبرازيل ثم فرنسا وألمانيا. ويلاحظ تباين نسب التعافي والشفاء حتى بين الدول الأعضاء في مجموعة العشرين بناءً على عوامل متعددة، منها قدرة استجابة النظم الصحية وفاعليتها في مواجهة تداعيات المرض مبكراً ومدى انتشار اللقاح وتوفر العلاج.
وصاحبت الجائحة أزمات اقتصادية بانكماش في الناتج العالمي وزيادة في البطالة وتزايد أعداد البشر الذين يعانون من الفقر المدقع، مع ارتفاع حدة التفاوت في الدخول والثروات، فضلاً عن تضخم المديونيات الخارجية التي كانت مرتفعة أصلاً قبل الجائحة فيما عُرف بالموجة الرابعة للمديونية.
وقد صدر مؤخراً لكاتب هذه السطور كتاب بعنوان «في التقدم: مربكات ومسارات»، وأقتبس من مقدمة أحد فصوله عن تداعيات «كورونا» ما يلي «أتت جائحة كورونا فاختبرت قدرات الأمم على التعامل مع المربكات الكبرى ومدى استعدادها لها. ويستشري معها انتشار نظريات المؤامرة والخرافات. وتبين أن العالم مع الجوائح بين إنكار وإهمال لها قبل وقوعها وهلع وارتباك بعد وقوعها. ولا ينجو منها الناس بفضل ربهم إلا بالعلم والمال». وبعدما تسابق أهل العلم في تطوير اللقاح وساعدت مؤسسات المال في توفيره إنتاجاً وتوزيعاً في البلدان المتقدمة وتمت إتاحته في البلدان الأخرى، مع تباين شديد بين الدول الأغنى والأفقر، لاحت آمال للبعض بأن عام 2022 هو عام الغوث والتعافي من آثار الجائحة بعد سنتين عجفاوين. واُستشرفت قبل بداية العام عودة لمعدلات النمو الموجبة تدفع بالاقتصادات لمسارات تلتئم فيها إصابات أسواق العمل والتجارة، إلا أن ضربات متلاحقات من الأزمات الجيوسياسية وصدمات في سلاسل الإمداد وتراجع العرض من السلع والخامات الأساسية والخدمات سببت ارتفاعات حادة في معدلات تضخم الأسعار قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ومع إرهاصات هذه العاصفة الكاملة الجديدة ظهرت تحديات كبار للسياسات الاقتصادية فإجراءات السياسة المالية العامة مقيدة الحركة بارتفاعات غير مسبوقة في الإنفاق العام وزيادة عجز موازنات الدول التي أنهكتها إجراءات مواجهة الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن أدوات السياسات النقدية الواجب تسخيرها لمواجهة التضخم تأخر تفعيلها ترقباً لإجراءات لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي أضاع وقتاً ثميناً في جدل حول إذا ما كان التضخم عارضاً مؤقتاً لا يستدعى رفعاً لأسعار الفائدة، أم مستمراً يستوجب التدخل السريع. فلما تبينت عاقبة التأخير سارع بنك الاحتياطي الفيدرالي بإرسال إشارات للأسواق بما هو مقدم عليه من رفع عاجل لأسعار الفائدة على مدار الفترة القادمة ثم أرسل إشارات أخرى للسيطرة على التوقعات بمزيد من التضخم تظهر أن السياسات النقدية الأميركية ستكون أكثر تقييداً، برفع أعلى وأسرع لأسعار الفائدة، بما سبّب تقلبات أشد حدة في أسواق المال وجعل التدفقات المالية خاصة قصيرة الأجل منها والساخنة تفر من البلدان النامية تاركة وراءها اضطرابات في أسعار الصرف وتهديدات بزيادة مخاطر مديونياتها الخارجية. ومع هذا ستظل معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في اتجاه يعزز استعادة وتيرة التعافي، وإن كان ذلك بمعدلات نمو أقل من المتوقع لها منذ عام، ولكنها أعلى نسبياً من أغلب الاقتصادات المتقدمة التي لن تزيد على 3.5 في المائة في أفضل التقديرات.
أما الصين، فهي صاحبة الاقتصاد القادم بقوة للصدارة؛ رغم بعض المربكات، منها تعرضها مؤخراً لموجة جديدة معدية لفيروس كورونا، أجبرتها على إغلاق جزئي في ظل اتباعها استراتيجية «صفر كورونا» بما أثر سلباً على طلب المستهلكين والاستثمار ومن ثم معدل نمو الناتج الصيني، وبالتالي الناتج العالمي بحكم وزن الصين المتنامي في معدلات نموه على مدار العقدين الماضيين. ولكن الاقتصاد الصيني يتمتع أكثر من غيره بمرونة في استخدام أدوات السياسات المالية العامة والنقدية، بما في ذلك الدفع بحزم تحفيزية إذا أرادت الإدارة الاقتصادية الصينية لها تفعيلاً، خاصة بعد استقرار السوق العقارية وانخفاض معدلات التضخم في الصين عن شركائها التجاريين. ورغم تراجع معدلات النمو في الصين، فإنها ستظل أعلى من متوسط معدلات النمو في الأسواق الناشئة وكذلك الاقتصادات المتقدمة.
أما مجموعة دول اليورو فتواجه تحديات تراجع الإنتاجية وتفاوت الدخول، والخلل الديموغرافي والمواجهة المباشرة لتوترات سياسية تصاعدت لحالة صراع عسكري يهدد أمنها شرقاً، مع وضع حد للاعتماد الكبير على الغاز الروسي، بما يستوجب إجراءات لإعادة الهيكلة والتنويع لمصادر الطاقة مصدراً ونوعاً بما سيربك نمو صناعات وقطاعات بعينها. سيؤدي هذا إلى مزيد من الانخفاض والتباين والتقلب في معدلات نمو اقتصادات دول اليورو التسع عشرة من أصل 27 دولة تشكل الاتحاد الأوروبي. ولا تظهر المملكة المتحدة بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي أو اليابان بمعدلات نمو تؤكد تمام التعافي، لتأثرهما باضطراب سلاسل الإمداد، فضلاً عن مشكلات تتعلق بارتفاع معدلات التضخم والضرائب في الأولى، وهشاشة مصادر التعافي في الثانية باعتمادها على طلب استهلاكي متذبذب.
ويؤكد هذا المشهد لتوقعات النمو ومساراته بين البلدان المختلفة، ما أكده كتاب المربكات في مطلعه من أن «الأمم في سباق مستمر، وهي فيه حتماً سواء بإرادتها أو رغماً عنها. وسباق الأمم لا يتوقف للحظة ولا يعنيه من يتقدم فيه أو يتأخر ولا يكترث بمن يصمد فيه أو يترنح. ولا مجال للصدارة فيه لمن يتخاذل أو يكتفي بلوم قواعد اللعبة أو التنديد بما فيها من غبن أو تلاعب. فالتقدم اختيار وإرادة».
وقد ضربت موجات التضخم وأزمات أسعار الوقود والغذاء والتحديات المالية وإدارة المديونية الخارجية بدول نامية في أقاليم متفرقة بما يهدد نمو اقتصاداتها بتراجع ملموس يؤخر عودتها لمسارات الناتج قبل الجائحة باستثناء بعض الدول المصدرة للنفط والغاز والسلع الأساسية، التي عليها رغم تحسن معدلات نموها إدارة التقلبات الحادة في أسعار سلعها المصدرة وتأثيرها على عدالة توزيع الدخل والتضخم. ولا يحظى كثير من الدول الأفريقية والعربية باستثناءات من هذا الوصف إلا من أتبع سياسات حصيفة تعينها على التعامل مع الموجات المتقلبة لأسعار صادراتها ووارداتها، وإدارة ملفات الديون الخارجية وتحجيم مخاطرها المحدقة واستعادة التعافي لاقتصاداتها بمعدلات نمو أكثر شمولاً وأعلى ارتفاعاً عما هو متوقع لأكثرها في العامين الحالي والمقبل.
وتظل المشكلة الكؤود لكثير من البلدان العربية والأفريقية كامنة في نوعية النمو، بمعنى أن تصاحب معدلات النمو الظاهرة ارتفاعات مناظرة في معدلات التشغيل وتحسن في الدخول الحقيقية وهو ما يستلزم، وفقاً للكتاب المذكور، سياسات جديدة للنمو «فللتعامل مع المربكات المعترضة سبيل التقدم تحتاج الأمم إلى الاستثمار في رأس المال البشري والبنية الأساسية والتكنولوجية وفي سبل الوقاية من الصدمات. ولكننا نعاني اليوم من انفصال بين مسارات الاستثمارات المطلوبة للتنمية وما يدور في أسواق المال بما يستدعي نهجاً جديداً للإصلاح».
كما يستوجب التغير في طبيعة العولمة والانتقال التدريجي لمركز الجاذبية الاقتصادية نحو نصف العالم الشرقي، تعاوناً إقليمياً عربياً على نحو ما نراه مثلاً في دول الآسيان. فكما أشار كتاب المربكات لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه اقتصاداً عربياً، فنحن بصدد اقتصادات متباينة الأداء ضعيفة الترابط رغم وفرة متطلبات تحقيق طفرات في التجارة البينية وتدفق الاستثمارات والعمالة. التعاون العربي ضرورة للتقدم تحتمه تحديات المستقبل وتيسره وحدة الجغرافيا وتعوقه مربكات سياسية.
للتعامل مع العاصفة الكاملة المستجدة في الأجل القصير ستطالع توصيات بديهية لتقارير دولية منادية بإنهاء الحرب في أوكرانيا فوراً، وربما تحمست فذكرت مناطق أخرى لصراعات دامية. وستناشد التوصيات استكمال التصدي للجائحة الصحية التي سببت عاصفة 2020 وتداعياتها، والتعامل مع ارتفاعات الأسعار قبل مزيد من استفحالها الذي سيؤدي بدوره إلى اتباع سياسات نقدية ومالية عامة أكثر تقييداً وتقشفاً، بما يدفع إلى ركود دون القضاء على التضخم بالضرورة فننتهي إلى موجة عاتية من الركود التضخمي تزيد العاصفة الكاملة دماراً وعنفاً. كما ستطالع حديثاً، بلا أفعال مجدية تذكر، عن ضرورة علاج مشكلات المديونية الدولية قبل أن تتحول لأزمات مجتمعة أو متناثرة تضاف إلى قائمة المتعثرين من البلدان النامية منخفضة ومتوسطة الدخل. وستقرأ تحذيرات كثيرة من عواقب إهمال تغيرات المناخ وتراجع الاستثمار في التخفيف منها والتكيف مع آثارها، دون أن تظهر ومضات لمصادر تمويلها الموعود. وستكثر مناشدات عن أهمية التعافي الأخضر الذكي المتوازن إلى آخر هذه النعوت، التي قد يستجاب لها ببعض التعهدات بلا إلزام يذكر أو توقيت محدد، بما يستوجب الحرص في التعامل معها وضبط التوقعات بما يستحقها والمطالبة بالشفافية والإفصاح وتفعيل آليات المحاسبة حتى يمكن استعادة الثقة بعد عهد طال من إخلاف الوعود. وفي كل الأحوال يذكرنا كتاب المربكات المشار إليه بأنه «في سباق التقدم تتنوع المربكات وآثارها. وقد تسبب المربكات أزمات تتعلق بالأوبئة أو بتغيرات المناخ أو بتقلبات سياسية حادة أو بصدمة اقتصادية مفاجئة أو بمستحدثات تكنولوجية. وتشترك المربكات في ضرورة الاستعداد لها والمرونة في التعامل معها. ويفوز في النهاية من يستغلها لصالحه».
د. محمود محي الدين
«إفلاس» لبنان ليس حديثاً ولا عابراً
أطلعنا أحد المسؤولين الموكلين على إدارة البلد أنّ لبنان قد أفلس، والحقّ يُقال، أنّه سرعان ما تراجع عمّا صرّح به، وحاول تفسير مقصده. وكان وقعه لدى المواطن اللبنانيّ أليماً، وانتشر الخبر عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، والقنوات الإخباريّة بسرعة، لدسامته، ولأنّ البلد ضعيف و«جسمو لبّيس» لأيّ نوع من الإشاعات. اليوم، وبعيدًا من تاريخ الإعلان «المشبوه» الذي ابتغى تمرير قانون الحجز على الأموال «الكابيتال كونترول»، سنتناول مصطلح الإفلاس، ونبحث في إمكانيّة إطلاقه على دولة ما، لأنّ هذا الأمر ليس بحديث، فالدولة اللبنانيّة توقّفت عن دفع مستحقّاتها منذ سنتين، ولا يمكن أن يكون حديثًا عابرًا، ونعاود حياتنا وكأنّ شيئاً لم يكن، وقبول الشعب بأيّ قرار يستّر على سمعة بلده «المفلس».
إنّ قائمة البلدان «المفلسة»، أي الّتي تخلّفت عن السداد عبر التاريخ طويلة. ففرنسا، على سبيل المثال، تخلّفت عن الدفع 8 مرّات، كان آخرها العام 1812، عندما تركت التوسّعات النابوليونيّة البلاد منهكة اقتصاديًّا، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الماليّة تُجاه دائنيها. بين عامي 1975 و2008، تخلّفت ما لا يقل عن 71 دولة عن سداد ديونها السياديّة، على سبيل المثال لا الحصر: كرواتيا في العام 1996، روسيا في 1998، أوكرانيا في 2000، وفنزويلا في 2004، وجميعها أثبتت عدم قدرتها على سداد ديونها. كما أنّ اليونان ليست غريبة عن هذه الظاهرة، حيث انّ الحكومة اليونانيّة، لم تفِ بالتزاماتها الماليّة في كلّ عام من أصل عامين.
ويمكن الحديث عن سريلانكا، فهي على وشك أن تُعلن عدم إمكانيّة سداد التزاماتها الماليّة. فقد وافقت الحكومة على اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ، وأعلن الرئيس السريلانكيّ أنّه سيعمل مع الأخير لإيجاد حلّ للأزمة الاقتصاديّة والماليّة غير المسبوقة الّتي تمرّ فيها البلاد منذ أشهر عدة، إذ يتصاعد الغضب في ظلّ شحّ كبير في السيولة، وانقطاع الكهرباء الّذي يقطع وتيرة الحياة اليوميّة للمواطنين، الّذين يفتقرون إلى الأدوية والبنزين، وكذلك بعض المنتجات الغذائيّة الأساسيّة. كما لم تَعُد الدولة قادرة على تمويل وارداتها. كما انخفضت احتياطات النقد الأجنبيّ في العامين المنصرمين بنسبة 70% مع خفض التصنيف الإئتمانيّ من قِبل وكالات التصنيف العالميّة، فلم يعد بإمكان سريلانكا الاقتراض من الأسواق الماليّة. كذلك، كانت الدولة قد خفّضت الضرائب قبل أن تنتشر جائحة كوڤيد-19، الضربة الّتي ألحقت الضرر بالقطاع السياحيّ بوجهٍ كبير، وهي مصدر رئيسيّ للنقد الأجنبيّ. وبحلول العام 2020، كانت الحكومة قد فرضت قيودًا صارمة على واردات السلع غير الأساسيّة. وللتذكير، فإنّنا نتكلّم عن سريلانكا، وليس عن لبنان!!!
بوجهٍ عامّ، ثمّة أسباب يمكن أن تؤدّي إلى تخلّف الدولة عن السداد: السبب الأوّل، ظهور حالة غير متوقّعة، مثل حربٍ ما أو أزمةٍ ماليّة من شأنها أن تؤثّر فجأة في سيادة الدولة، وتمنعها من سداد ديونها كما خُطّط لها. وأشهر حالة كانت روسيا في 1917، التي رفضت بعد الثورة البولشفيّة سداد ديون النظام القيصريّ، وفي الوقت نفسه تسبّبت في خسارة مدّخرات العديد من الأُسر الفرنسيّة الّتي استثمرت في القروض الروسيّة. أمّا السبب الثاني، يمكن لدولة ما أن تتّخذ قراراً في التخلّف عن السداد بطريقة «باردة»، مثل الإكوادور في 2000، فاقترحت الحكومة، بسرعة ومن جانب واحد، إعادة هيكلة ديونها، وإعادة جدولتها.
في العودة إلى موضوعنا الرئيسيّ، نجد أنّ مصطلح «الإفلاس» بات يُستخدم بانتظام في وسائل الإعلام، للإشارة إلى حالة الدولة الّتي تمرّ بصعوبات اقتصاديّة كبيرة، ولا سيّما في ما يتعلّق بديونها. كانت هذه حالة اليونان، وإسبانيا، وفنزويلا أخّيرًا، والكثير من البلدان الأُخرى الّتي ذكرناها. والسؤال الّذي يُطرح هنا: هل يمكن أن يُفلس بلدٌ ما؟ وإذا بحثنا من كثب، هل يمكننا القول إنّ لبنان دولة مفلسة؟
لذلك، يجب أن نحدّد مصطلح الإفلاس أوّلًا، فهو يُشير إلى إجراء قانونيّ يتعلّق بشخص، أو شركة غير قادرة على سداد ديونها المستحقّة. إنّه ينطوي على جرد جميع أصول المَدين وتقييمها، الّتي سيتمّ استخدامها بعد ذلك لسداد الديون. وبالتالي، فإنّ حالة الإفلاس تعني العناصر التالية: وجود سلطة أعلى (قاضٍ) تُلزم بفعل شيء ما، وبيع الأصول لدفع الدائنين.
فنستنتج أنّه لا يمكن تطبيق التعريف السابق على بلدٍ ما. أوّلًا، بسبب مفهوم السلطة العليا: فبحكم سيادة الدول، لا توجد سلطة عليا يمكنها إجبار بلد ما على سداد ديونه. حتّى في حالة الاتّحاد الأوروبيّ، تبقى الدول ذات سيادة. إذ يمكن للمنظّمات الدوليّة تقديم المشورة والتشجيع، لكنها لا تملك القدرة على إلزام الدول بأيّ قرار. ومع ذلك، يمكن ممارسة الضغوط، ممّا سيؤدي إلى تلازم السمعة السيّئة بهذه الدولة على الساحة العالميّة، ولن توافق أيّ حكومة أُخرى على إقراضها المال بعدها، أو مجرّد القيام بالتبادل التجاريّ.
وثانيًا، الأمر الّذي لا ينفصل عن مفهوم الإفلاس، هو تحويل الأصول لدفع الالتزامات، أي بيع ممتلكات المَدين من أجل السداد للدائنين: مثلًا، إذا كانت الحالة تخصّ شركة أو فرداً، يمكننا أن نفهم جيّدًا ما يمكن أن يعنيه مصطلح الأصول (آلة، أو منتج، أو المباني، أو المواد، إلخ …). وفي حالة بلدٍ ما، فإنّ المفهوم أقلّ وضوحًا. إذ أنّ أصول الدولة لها شكل معقّد، لأنّ بعضها لا يمكن استبداله، أي لا يمكن بيعه، مثل شبكة الطرق، أو الأرض نفسها، أو حتّى المعالم الأثريّة. وبالتالي، فإنّ العنصرين الأساسيّين المرتبطَين بالإفلاس لا يتوافقان مع مفهوم سيادة الدولة. لذلك، فإنّ المصطلح غير مناسب، ولا يمكن لأيّ دولة أن تُفلس، بمن فيها لبنان، وإن عُرف عن شعبه إبداعاته، وعن حكومته بدعاتها.
لكن يجب علينا التمييز بين حالات التخلّف عن السداد، الّتي يمكن أن تكون متنوّعة تمامًا. عادة ما نتحدّث عن سداد الديون. ولكن في بعض الأحيان، هناك دول ليس لديها أيّ أموال متبقيّة في خزائنها، حتّى لو كان ذلك لشراء الأدوية، أو الطعام فقط. إذا «أفلست» دولة ما إن صحّ التعبير، فلا يمكن تصفيتها مثل أيّ شركة أو مصرف، لأنّ الشركة يمكن أن تتوقف عن الوجود، لكن الدولة لا يمكنها «الاختفاء»، وهذا هو الاختلاف الأساسيّ.
بهذا المعنى، لا يمكن للدولة أن تفلس. فالدولة بحكم تعريفها سياديّة، ولا يمكن حساب أصولها أو جردها. حتّى في أسوأ الأوضاع الاقتصاديّة (الحرب، أو التضخّم المفرِط، إلخ …)، يمكن أن تلجأ الدول إلى ضرائب خاصّة (أو قروض وطنيّة)، أو حتّى التخلّي عن عملتها الوطنيّة من أجل السماح للعجلة الاقتصاديّة معاودة عملها، وبالتالي إيجاد موارد جديدة.
علاوة على ذلك، لا توجد هيئة تنظيميّة على مستوى أعلى من المستوى الوطنيّ يمكنها اتّخاذ قرار بشأن «إفلاس» الدولة. في نهاية القرن الماضي، حاول صندوق النقد الدوليّ تعريف مفهوم «عجز الدولة عن السداد» من أجل طمأنة الدائنين، وكذلك لتخفيف وطأة الدين عن المدينين في صعوبات التدفّق النقديّ، لكنّ المحاولة باءت بالفشل.
بعد هذا العرض، من الّذي يقرّر إذا كانت دولة ما في وضع التخلّف عن السداد؟ أولًّا، الحكومة نفسها، يمكنها، على سبيل المثال، أن تعلن عن تقصيرها بالإعلان عن تخلّفها بالتزاماتها المتعلّقة بالديون. هذا ما فعله لبنان في 9 آذار 2020، وقد كان يتكبّد ديونًا تقدّر بـ 92 مليار دولار أميركيّ، أي نحو 170% من ناتجه المحليّ الإجماليّ. لم تكن الحكومة قادرة حينها على دفع 1,2 مليار دولار أميركيّ من سندات اليوروبوند – سندات الخزانة الصادرة عن الحكومة – المستحقّة عليها. كما وجدت روسيا في العام 1998، والأرجنتين في 2001 نفسيهما أيضًا في الوضع عينه، بعد إعلان وقف سداد ديونهما.
ثانيًا، يمكن لوكالة تصنيف عالميّة أن تعلن رسميًّا عن حالة العجز أو التقصير عن السداد. لأنّ وكالات التصنيف العالميّة هي من تقيّم الملاءة الماليّة لكلّ بلد، بواسطة تصنيف التزاماته، بحيث تخوّل المستثمرين تكوين فكرة حقيقيّة عن الائتمان في الدولة.
أخيرًا، يمكن أن يُعلَن عن التقصير في السداد من قِبل رابطة «إيسدا» (ISDA) الّتي مقرّها في الولايات المتّحدة الأميركيّة، والّتي تضبط مقايضات الإئتمان، وهو نوع من التأمين ضدّ تعثر دولة، أو شركة، أو من دائن خاصّ، فتكشف أنّ الدولة قد توقّفت عن السداد.
لذلك، عندما تعلن دولة ما عن تخلّفها عن السداد، يجتمع دائنوها للتفاوض ومحاولة استرداد جزء من رؤوس أموالهم. وثمّة خياران: يمكن الدائنون اختيار إعادة هيكلة ديون الدولة أو شطبها. على أيّ حال، فإنّ التخلّف عن السداد لا يخلو من عواقب. فالدول الّتي تُعلِن عن تقصيرها في السداد، تخاطر بالتعرّض لعقوبات دوليّة، أو عدم قدرتها على الاقتراض من الأسواق الماليّة في المستقبل.
في المواقف الاقتصاديّة الخطيرة للغاية (وما أخطر حالتنا في لبنان)، عندما يغرق بلد ما عميقًا في تعثّره الاقتصاديّ، من الممكن مطالبته بالمساهمة الجزئيّة، فقد لا يكون قادرًا، في لحظة معينة، على سداد ما عليه، حينها إمّا يحاول أن يجد الأموال بوجهٍ عاجل عن طريق الخصخصة، أو الاقتراض. أو أنّ البلد لا يستطيع إيجاد مستثمر يقرضه، لأنّه فقد الثقة لدى الدائنين في قدرته على سداد المزيد من القروض.
كما يمكن الدولة أن تسعى للحصول على تمويل من دول أُخرى، لكن قد تُفرَض عقوبات دوليّة على البلد، أو الأفراد، أو حتّى مصادرة أصول الدولة خارج أراضيها. على الرغم من نجاح المساهمات التعدّديّة، سيُترك الأمر لصندوق النقد الدوليّ لإقراض الدولة. فدوره يتمثّل في ضمان الاستقرار الماليّ الدوليّ. وسيتمّ الاقتراض بشرط أن «يتعافى» البلد، وهذا ما يتمّ الآن في لبنان بعد أن حصل على 3 مليارات دولار أميركيّ ضمن خطّة إنقاذ يُفاوض عليها. من ناحية أُخرى، لطالما اتُّهم صندوق النقد الدوليّ بالتركيز أكثر على الإنفاق من أجل هذا «الانتعاش»، وبأنّه يمتلك تنظيمًا اقتصاديًّا ليبراليًّا مفرطًا، وهو الآن في موقع أضعف، بسبب طرقه الخاطئة وشحّ موارده.
هكذا، نجد أنّ الوضع الاقتصاديّ المُزري في لبنان ليس «حديثًا»، فيعود الأمر إلى سنين كان المواطن فيها يُعطي الفرصة تلو الأُخرى للتشكيلة الحاكمة نفسها، كما أنّ ضياع تعب اللبنانيّ في مهبّ الريح ليس أمرًا «عابرًا»، وهو حقّ سيستردّه…
أخيرًا، في ظلّ تعثّر البلد عن استحقاقاته الماليّة، نراه أمام استحقاقٍ آخر «انتخابيّ». وللبنان دينٌ علينا يجب أن نُسدّده بكلّ امتنان. فحرّيّتنا الّتي وُهِبنا أغلى من أن تُثمّن، وأسمى من أن تُدفن من دون أن تُستثمر في صناديق الاقتراع. وليطمئن اللبنانيّ، فمهما حاولوا تهويل المشهد قبل الاستحقاق الانتخابيّ، ثمّة حقيقة دامغة لا تتغيّر في تاريخ لبنان بالرغم من تعثّراته الماليّة… البلد يبقى والمسؤولون الفاسدون هم وحدهم من يُفلسون، فلا يمكنهم أن يقايضوا أرزه وجماله وآثاره، أو يقامروا بإرثه وثرواته، أو يتاجروا بأرضه وثبات شعبه، أو يبيعوا قيمه وأصالته. فهذه الكنوز ملك الشعب الحرّ، ولن يسلبها منه أحد.
ب.ندى ملاح البستاني