ماذا يريد إيلون ماسك؟

غرد إيلون ماسك، في أواخر الشهر الماضي، ضمن موجة التعليقات الآيديولوجية التي رافقت استيلاءه المستمر على «تويتر»، قائلاً: «لقد دعمت أوباما لمنصب الرئيس، لكن الحزب الديمقراطي اليوم تعرض للاختطاف من قبل المتطرفين». في وقت متزامن تقريباً، أشعل ماسك النار في منصة وسائل التواصل الاجتماعي بإعادة نشر رسم كاريكاتوري يظهر رسم عصا مائلة تجاه يسار الوسط في عام 2008، وهو ما أعيد تعريفه بأنه متعصب يميني بحلول عام 2021، لأن رسمة العصا اليسارية قد انطلقت بعيداً إلى اليسار. ثم في الأسبوع الجاري، عبر ماسك عن نفس النوع من التفكير بأسلوبه المختصر الذي اشتهر به الموقع، وهو أن «تويتر لديه تحيز يساري قوي».
والآن، أخيراً، لدينا أخبار أنه من المحتمل أن يسمح لدونالد ترمب بالتغريد بحرية مجدداً. كل هذه التعليقات والوعود تضع أغنى رجل في البلاد مع الجانب الأيمن في الحرب الثقافية. لكن رغم أنني لا أعرف ماسك – فأنا لم أقابله مطلقاً ولم أتسكع في أي مخبأ سري برفقة الملياردير الشهير – فإنني أعتقد أنني أعرف ما يكفي عنه، وأعرف عدداً كافياً من الناس في وادي السيليكون مثله، مما يشير إلى أنه لا توصيفاته الذاتية على «تويتر» ولا الانتقادات التي يتم إلقاؤها في طريقه تعكس ما يميز منصبه ورؤيته للعالم.
إن مصطلحاً مثل «المحافظ» لا يناسب رجل أعمال بحجم رئيس شركة «تسلا»، وحتى وصف «تحرري». ورغم أنها أقرب إليه، فإن ماسك يرتبط بالعديد من الأفكار التي لا أعتقد أنه يهتم بها بدرجة كبيرة. تأتي التسمية الأفضل من فيرجينيا بوستريل، في كتابها الصادر عام 1998 بعنوان «المستقبل وأعداؤه»، حيث تبدو شخصية ماسك أقرب إلى «الديناميكي»، ويعني هذا الشخص الذي تتمثل التزاماته الأساسية في الاستكشاف. هو شخص يعتقد أن المجتمع الأفضل هو مجتمع دائماً ما يخترع ويتحول ويفعل شيئاً جديداً.
إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو غير مثير للجدل، فكر مرة أخرى. أولاً، قد لا يهتم الديناميكي بالمصدر الذي ينبع منه الابتكار والاختراع: على عكس الليبرالي البحت، قد يكون غير مبالٍ بمسائل الإنفاق العام مقابل الإنفاق الخاص، ويسعد باحتضان المساعدة الحكومية إذا كان هذا هو ما يتطلبه الأمر للحصول على شيء جديد – ويسعدنا أن نأخذ هذه المساعدة من أنظمة مثل الصين الشيوعية كما نحصل عليها من منطقتنا. وقد يكون على استعداد للمخاطرة بأكثر من خصاله كشخص تقدمي نموذجي أو كمحافظ نموذجي من أجل الابتكار. يمكن التفاوض على المبدأ السياسي والاستقرار الاجتماعي والنظام الأخلاقي عندما يكون الاكتشاف وحده هو «الهدف الأسمى».
بالنسبة لكثير من الناس، الديناميكية مشروطة بمدى استثمارك في العالم كما هو، وما إذا كنت ستخسر أو تستفيد من الابتكارات، وأين يكمن حدسك الأخلاقي. حتى في عالم التكنولوجيا، فإن شهيتك للديناميكية تعتمد على المكان الذي تقف فيه: إذا كنت محظوظاً بما يكفي للعمل في واحدة من شبه الاحتكارات في «وادي السيليكون»، القوى الجديدة للعصر، قد لا تكون مهتماً بمزيد من التغيير.
قد يتطور ماسك نفسه إلى هذا النوع من الاحتكار المريح، لكن في الوقت الحالي، وانتظاراً للاكتتاب العام لشركة «MarsCorp» في عام 2047، يظل ماسك ديناميكياً بالكامل. ومن هذا المنطلق، فإن تحوله الأخير من ديمقراطي مناصر لأوباما إلى تقدمي محبط يبدو منطقياً تماماً في ضوء التحولات التي مرت بها الليبرالية نفسها مؤخراً.
لكن منذ أن طوع ترمب التاريخ ليسير في طريقه، تضاءلت هذه الثقة أو انهارت. الآن ينظر الليبراليون بشكل متزايد إلى الإنترنت على أنها منطقة للوحوش والمعلومات المضللة غارقة في الليبرالية، ويمكن التلاعب بها بسهولة من قبل الديماغوجيين، وهي أرض خصبة للمتمردين.
في الوقت نفسه، فإن القيم الكامنة وراء الديناميكية – وقبل كل شيء، الركيزة الخاصة الممنوحة للتفكير الحر وحرية التعبير – هي أيضاً أصبحت موضع شك أكبر داخل ليبرالية اليوم. توجد روح تنظيمية جديدة للثقافة وكذلك الاقتصاد، وموقف كبير جداً تجاه تداول الأفكار التي يحتمل أن تكون خطرة، والإيمان بمؤسسات السلطة العلمية والفكرية، ولكن ليس بالضرورة المؤسسات المتاحة لتحقيق مفتوح.
تماماً كما قد يفضل الديناميكي، في أقصى اتجاه يمكن أن يصل إليه، نظاماً ملكياً يحمي الابتكار أكثر من ديمقراطية لا تشجعه، فإن بعض التقدميين اليوم يتخذون نفس الخطوة في الاتجاه المعاكس: إذا كانت الديمقراطية مهددة بالتغير التكنولوجي وحرية التعبير غير المقيدة، ثم الأسوأ من ذلك بكثير بالنسبة لحرية التعبير. الشيء المهم هو إنقاذ الحكم الذاتي الديمقراطي، حتى لو اضطررت إلى سحب «الحريات» مؤقتاً من «الاتحاد الأميركي للحريات المدنية» أو إبعاد جون ستيوارت ميل.
أياً كان ما يريده ماسك من «تويتر» – ومن الواضح أنك يجب أن تفترض أنه يريد جني الكثير من المال – يبدو أن هذا الاتجاه الآيديولوجي الذي يأمل مقاومته أو إيقافه، هو التراجع الليبرالي عن الديناميكية، والتحول التقدمي نحو التنظيم الآيديولوجي، والانتشار والتوسع. يخشى اليسار أن «التعديل الأول»، وحرية التعبير، يتم تسليحها ويحتاجان إلى نوع من المراقبة.
إذن السؤال المثار الآن: إذا كان هذا هو طموحك – بغض النظر عما إذا كنت تعتقد أنه مثير للإعجاب أو خطير – فهل سيكون شراء «تويتر» منطقياً؟
تنص النظرية الإيجابية على أنه نظراً لأن «تويتر» هو ساحة رقمية أساسية ومكان مأهول بشكل كبير من قبل الليبراليين المتعلمين جيداً، إذا تمكن ماسك من النجاح من خلال نهج أخف في إدارة المحتوى، فقد يأمل من منظور ديناميكي في تحقيق هدفين في وقت واحد. أولاً: سيحافظ ببساطة على مساحة مهمة يمكن أن يحدث فيها نقاش حر. ثانياً: بافتراض أنه يمكن أن يأتي ببصمة خفيفة يقبلها المستخدمون ذوو الميول اليسارية – فإنَّه سيدرب برفق ليبراليي «تويتر» على العودة إلى معتقداتهم.
نظراً لأن جزءاً كبيراً من نجاح وثروة ماسك يأتي من البحث عن تطبيقات التكنولوجيا في العالم الحقيقي – بمعنى السيارات والصواريخ والأنفاق، وليس فقط التطبيقات والتغريدات – فمن المحتمل جداً أنه قد فكر بالفعل في كل هذا، وأن لديه رؤية نهائية لـ«تويتر» كشبكة افتراضية تربط المؤسسات التي تم إصلاحها أو تنشيطها في العالم الحقيقي.
أو بدلاً من ذلك، ربما يعتقد أن العالم الافتراضي، قريباً جداً، سيحل محل عالم الطوب والأجساد تماماً، وأنه بشراء «تويتر» فهو يشتري حرفياً العقارات الرقمية، حيث سيبني زملاؤه الديناميكيون المؤسسات العظيمة للغد.
إنها إحدى نقاط القوة في الديناميكية كآيديولوجيا إرشادية يمكنها أن تلهم هذه الأنواع من القفزات. لكن ضعفها عادة ما يكون هو نفسه الذي قضى على «إيكاروس» (في الأسطورة اليونانية القديمة). في بعض الأحيان تستطيع أن تقفز وتكون لديك أجنحة طائر لتحملك إلى الأعلى، وفي بعض الأحيان، قد يكون كل ما لديك هو ريشها المتحلل، لكن الأسوأ من كل ذلك ألا يكون لديك حتى ريشها، بل تغريداتها.

روس دوثات

مصرف لبنان يقترح تسديد أموال المصارف بالليرة

يبدو انّ المعركة ستُفتح على مصراعيها بين جميعة المصارف ومصرف لبنان، وستبدأ الدعاوى القضائية تتوالى بين الطرفين بدءاً من رفض المصارف لخطة التعافي الاقتصادي التي حمّلتها الجزء الاكبر من الخسائر المالية، وصولاً الى الكتاب الاخير المُرسل من قبل مصرف لبنان الى جمعية المصارف، والذي يطرح خيار تسديد موجودات المصارف المودعة بالدولار لدى مصرف لبنان، بالليرة اللبنانية!

برّر مصرف لبنان قيامه باستنزاف الاحتياطي الالزامي للمصارف بالعملة الاجنبية، مُتذرعاً بقانون النقد والتسليف، وبحجة انه استخدم تلك الاموال بهدف المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة النقد وعلى سلامة اوضاع النظام المصرفي ومن أجل تأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم. كما افاد مصرف لبنان المصارف علماً، انه يمكن، ووفقاً للقوانين المرعية الاجراء، تسديد اموال المصارف المودعة لديه بالدولار الاميركي، بالليرة اللبنانية. فهل ستقبل الاخيرة، ان يحلّ باموالها ما حلّ باموال المودعين لديها؟ وعن أي استقرار اقتصادي ونمو اجتماعي وسلامة مصرفية يتكلّم مصرف لبنان؟

في التفاصيل، أرسل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كتابا الى رئيس جمعية المصارف سليم صفير في 11 من الشهر الحالي، يتعلّق بموضوع احتياطي المصارف الالزامي في العملة الاجنبية في مصرف لبنان بالاشارة الى كتاب الجمعية المرسل اليه في 4 نيسان الماضي والمتعلق بالموضوع نفسه.

واوضح الحاكم لجمعية المصارف في كتابه ان «مصرف لبنان يتمتع بصلاحية تحديد نسب الاحتياطي الالزامي المفروضة على المصارف وقد أوجَب على هذا الاساس على المصارف تكوين احتياطي إلزامي نقدي بالليرة وايداعه في حسابات مفتوحة لديه. كما افاد انه يعود لمصرف لبنان وفقاً للسياسة النقدية والمصرفية المعتمدة من قبله، حق تحديد حجم وشروط تسليفات المصارف. وفي هذا الاطار، فرض مصرف لبنان على المصارف، اضافة الى موجب تكوين احتياطي الزامي بالليرة، موجب القيام بتوظيفات الزامية تُودَع لديه بالعملات الاجنبية وذلك لقاء فوائد وضمن نسب محددة.

وقال انه «باستثناء نص المادة 69 من قانون النقد والتسليف الذي يفرض على مصرف لبنان ان يُبقي في موجوداته نسبة من الذهب ومن العملات الاجنبية حفاظا على سلامة تغطية النقد اللبناني، لم يفرض هذا القانون على مصرف لبنان موجب الاحتفاظ بأي نسبة كاحتياط على موجودات المصارف المودعة لديه (من احتياطي وودائع وتوظيفات إلزامية). وبالتالي، يمكن لمصرف لبنان استعمال هذه الاموال طالما انه يتقيّد بالنسبتين موضوع المادة 69 المذكورة، وطالما ان هذا الاستعمال يبقى في اطار تحقيق مهام مصرف لبنان وفقاً للصلاحيات المعطاة له بموجب القوانين المرعية الاجراء، لا سيما في المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي توجِب على مصرف لبنان المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة النقد بهدف تأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم».

اضاف كتاب الحاكم: إلا انه، وبالرغم مما سبق، فإنّ الاموال التي يتم توظيفها من قبل المصارف في مصرف لبنان، وإن بشكل إلزامي، والتي تصبح من ضمن موجوداته، تبقى ديناً لصالح هذه المصارف بذمة مصرف لبنان الذي سيتولى اعادتها للمصارف عند استحقاقها. لذلك، وباستثناء ما تنص عليه القوانين العامة، وفي ظل غياب أي نص قانوني واضح يحدد طريقة تسديد أموال المصارف المودعة أو الموظفة لدى مصرف لبنان، يمكن لمصرف لبنان، وبغية تسديد قيمة هذه الاموال، عند استحقاقها، الى المصارف المعنية:

– إمّا تسديد المبالغ المتوجبة عليه بالشكل والخصائص ذاتها التي قامت المصارف بتوظيفها لديه وذلك استرشاداً بمبدأ توازي الصيغ والاصول وبأحكام المادتين 745 و761 من قانون الموجبات والعقود، التي توجِب على من يقترض مبلغا من النقود ان يرد ما يضارع هذا المبلغ نوعا وصفة.

– وإما التسديد بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الاميركي.

في هذا الاطار، أوضح رئيس مؤسسة جوستيسيا الحقوقية المحامي د. بول مرقص ان ما اشار اليه مصرف لبنان بانه يعود له ان يوظّف الاموال المودعة لديه من المصارف على نحو يؤدي الى الاستقرار وسلامة النقد وتأمين الضرورات الاقتصادية للبلاد، هو أمر صحيح مع ضرورة ان يكون قد تم ذلك في حالة إقراض الدولة اللبنانية على نحو اصولي ونظامي، اي ان يكون قد اتخذ بذلك قرارات من المجلس المركزي في مصرف لبنان بناء على التشريعات القانونية والمراسيم الحكومية اللازمة.

اما بالنسبة الى ما يتعلّق بالجزء الاخير من كتاب مصرف لبنان الى المصارف والذي ينص على اعادة اموال الاحتياطي الالزامي وفق قاعدة توازي الاصول والصيغ، اشار مرقص لـ«الجمهورية» الى انّ «المقصود بذلك فعليا او عمليا هو امكانية او خيار مصرف لبنان يُعيد هذه الاموال من خلال الشيكات او بالتحويلات الداخلية وليس من خلال السيولة النقدية». واعتبر ان اللافت الاكثر في كتاب مصرف لبنان هو الخيار الثاني الذي يشير الى انه يعود لمصرف لبنان تسديد تلك الاموال المقترضة بالدولار الاميركي، بالليرة اللبنانية، لافتاً الى ان الكتاب ترك المجال مفتوحا امام تحديد سعر الصرف، «وهنا بيت القصيد. هل ترك مصرف لبنان الخيار له بأن يُسدّد للمصارف الاموال المقترضة منها بالدولار، على اساس سعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة، اي بشكل لا يتطابق مع الواقع الاقتصادي والنقدي الراهن؟ او وفقاً لاسعار صرف اخرى يحددها أيضا بنفسه، تبدأ بمنصة صيرفة ولا تنتهي بالسعر الرائج في السوق؟»

رنر سعرتي

عن العقوبات الاقتصادية وعواقبها

عندما هدد الرئيس الأميركي جو بايدن روسيا «بفرض عقوبات شديدة وقيود على الصادرات» في حالة غزوها لأوكرانيا، لم يكن هذا إجراءً مستغرباً فقد أصبحت العقوبات الاقتصادية وضعاً افتراضياً معتاداً للسياسة الخارجية الأميركية مع كل أزمة دولية.
ويبدو أن الرئيس الروسي بوتين قد أدرج هذا في حساباته قبل الحرب فبلاده كانت بالفعل هدفاً لعقوبات، ولم يبالِ بالتهديد بأن العقوبات الجديدة ستكون أشد عنفاً من تلك التي طُبقت بعد أزمة جزر القرم في عام 2014؛ وهو ما حدث بالفعل ولم تكفِ العقوبات المشددة في الردع أو عدم تصعيد العمليات العسكرية. ولم تكن هذه حالة استثنائية لعجز العقوبات عن تحقيق أهدافها الأمنية أو العسكرية بمنع الحرب، فيذكر محلل السياسات الدولية جوشوا كيتينغ أن سجل العقوبات به خليط من الإخفاق والنجاح، وهي إلى الإخفاق أقرب حيث لم تحقق نجاحاً إلا في 33% من الحالات.
ويُرجع المؤرخون أول استخدام للعقوبات إلى عهود الإغريق، إذ أشار لها المؤرخ اليوناني القديم ثوكيديدس في فرض أثينا حظراً على تجارة مدينة ميجارا في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما رجع إليه المؤرخ الأميركي نيكولاس مدلر في كتابه الصادر قبل حرب أوكرانيا بأسابيع تحت عنوان «السلاح الاقتصادي وزيادة استخدام العقوبات كأداة في الحروب الحديثة». ويفرق مدلر بين العقوبات الحديثة وتلك القديمة بأنها، كما حدث في أثناء الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تستند إلى القانون الدولي وأعرافه وكثيراً ما استخدمتها الدول الأعضاء في عصبة الأمم – الكيان الأممي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى وأنهته فعلياً الحرب العالمية الثانية. ووصف الرئيس الأميركي وودرو ويلسون العقوبات الاقتصادية المضمَّنة في المادة السادسة عشرة من اتفاق عصبة الأمم بأنها من شأنها «أن تسبّب ضغوطاً تفوق قدرة أي دولة حديثة على تحملها».
ونجحت هذه العقوبات في بعض الحالات مثل إنهائها الغزو اليوناني للأراضي البلغارية في العشرينات من القرن الماضي. ولكنها فشلت في منع القوات الفاشية بقيادة موسيليني من غزو إثيوبيا في الثلاثينات، بل جعلته يتقرب من ألمانيا بقيادة حاكمها النازي هتلر. ومع فشل العقوبات الاقتصادية في ردع موسوليني، فما عساها تفعل قبال هتلر وأطماعه الأوروبية أو لتحجيم اليابان بمنعها في الاستمرار في غزو الصين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية فلم يكن أمام التحالف إلا الإذعان لما يحدث من عدوان أو إعلان الحرب، وهو ما كان في نهاية الأمر بما خلفته من ضحايا ودمار.
ويحدد المؤرخ الشهير بول كينيدي، مستعيناً بكتاب السلاح الاقتصادي، ثلاثة دروس تزداد فيها احتمالات فاعلية العقوبات: 1) ألا تكون ناعمة كأنها تُظهر مجرد عدم رضا عن الفعل، بل يجب أن تكون مُنزلة لألم شديد بالخصم. 2) أن تكون ذات ستار حديدي خالٍ من الثغرات التجارية والمالية وبلا أي استثناءات. 3) ألا يتمتع الخصم خلالها بسند من قوة أو قوى اقتصادية تمده بما يحتاج. ولهذا نجحت العقوبات الاقتصادية تاريخياً في حالات التعامل مع الدول ذات الاقتصادات الهشة أو شديدة الانكشاف الاقتصادي باعتمادها على الخارج. ولكن الدول ذات الاقتصادات الأكبر لن يلحقها الأذى إلا وقد مس خصومها أذى مثله. وهو ما حذّر بوتين بايدن من حدوثه في لقائهما الافتراضي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عبر الفيديو بأن إقناع الأوروبيين بعدم الإسهام في خط غاز «نورد ستريم الثاني» لا يخيفه بل سيؤذي حلفاء أميركا.
ويبدو أن الاستخدام المعاصر للعقوبات الاقتصادية، بوصفها أدوات أنعم من العتاد الحربي، جعل الخطوط الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم مبهمة باستخدام متكرر لأدوات من شأنها إلحاق دمار بالإمكانيات والأنشطة الاقتصادية، بل بحياة الناس أنفسهم، في وقت قد يعرف اسماً بالسلم لغياب حرب تقليدية معلنة.
كثيراً ما يترتب على القرارات بما في ذلك إجراءات العقوبات الاقتصادية في حالتنا هذه نتائج تناقض مقاصدها المعلنة، وقد أشرت من قبل على صفحات هذه الجريدة الغراء إلى أنه في أحوال متعددة تتجاوز هذه النتائج غير المقصودة ما يمكن عدّه مجرد آثار جانبية حيث تتجاوز حجماً وضرراً ما كان مستهدفاً منها.
ويذكر روبرت مرتون، الباحث في علم الاجتماع، في مقال نشره عام 1936 خمسة أسباب للوقوع في فخ النتائج غير المقصودة للقرارات:
1) الجهل بطبيعة المشكلة وأبعادها المتشابكة، وقد يكون ذلك لقصور في البيانات والمعلومات أو لضعف القدرة على التحليل.
2) الخطأ في المعالجة لنقصٍ في الخبرة أو لسوء اختيار التوقيت أو لعدم القدرة على توضيح الأهداف من القرار.
3) الاستناد إلى بعض المثل والمبادئ الأساسية التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا لم يتم وضعها في إطار من التوازن والاعتدال.
4) الرغبة الملحّة في تنفيذ القرار بما يجعل صاحبه يتغاضى عمداً عن أي آثار قد يسببها اتخاذه، فيصبح وكأنه قد قرر تجاهل أي أمر يسببه القرار مهما بلغ حجمه وضرره.
ومما لم تتناوله الحوارات مع إرهاصات الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، الأثر على الأطراف الثالثة أو ما يشبه إبان الأزمات الكبرى الأبرياء المتفرجين على سباق محتدم بين متصارعين رُعُن، فيطولهم الأذى بما يطيش من سلاحهم دون اكتراث. أما الأبرياء المقصودون هنا فهم أهل الدول النامية، وفي مقدمتها دول عربية وأفريقية، فقد ساء تقدير أثر قيام حرب بين روسيا وأوكرانيا اللتين لا يتجاوز إسهامهما في الاقتصاد العالمي 3 أو 4% على أقصى تقدير، ولكن لهما أوزان مؤثرة بشدة في قطاعات الطاقة والقمح وزيوت الطعام والأسمدة فضلاً عن تأثيرهما في السياحة الدولية. وتأتي هذه الحرب بمربكاتها مع وضع اقتصادي عالمي هش يعاني أصلاً، بسبب الجائحة وتداعياتها، من تراجع في معدلات النمو والتشغيل وزيادات في التضخم لم يشهدها العالم منذ أربعة عقود وديون خارجية تعتلي موجاتها بمخاطرها ما سبق من موجات انتهت كل واحدة منها بأزمة عالمية مشهودة.
– آثار ممتدة لتسليح أدوات الاقتصاد وتلغيم قنواته
ورغم أن العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك الموصوف منها بالذكاء، لم تحقق أهدافها المعلنة بكفاءة ما زال هناك من ينادي بها مثلما فعل الديمقراطيون في الكونغرس الأميركي بمطالبتهم بفرض عقوبات اقتصادية ضد الكيانات التي تهدد المناخ، أو ما كان من مطالبة باستخدام عقوبات دولية ضد من يحجب معلومات عمّا يهدد الصحة العالمية كالأوبئة. ويجعل مثل هذا التخوف من احتمالات استخدام عقوبات اقتصادية خطراً متزايداً، بما يضطر المسؤولين في دول مختلفة إلى اللجوء إلى بدائل، سواء لتحويل الأموال، وهو ما يجري فعلاً في الصين من خلال نظامها للتحويل المصرفي عبر الحدود والذي تطور منذ أزمة القرم بمنع روسيا من استخدام نظام «سويفت»؛ وكذلك إلى البحث عن أوعية مالية بديلة للاستثمار بعيداً عن أصول مالية قد تتعرض للتجميد، أو غير مالية قد تتعرض للمصادرة، بسبب اختلافات سياسية دولية.
هذا فضلاً عن البحث كذلك عن عملات دولية بديلة للدولار الأميركي، فرغم انخفاض نسبته في الاحتياطيات الدولية من أكثر من 70% في عام 2000 إلى 60% حالياً، فما زال الدولار يحظى -حتى الآن- بما وصفه الرئيس الفرنسي ديستان بـ«امتياز سخي» كعملة دولية يتمتع مصدرها بأن يشارك في سداد ديونه كل من يحمل عملته. ولكنْ هناك آثار على النظام النقدي الدولي من خلال التوسع في العملات الرقمية للبنوك المركزية بما في ذلك من الصين كـأكبر دولة نصيباً في التجارة العالمية، ومع حالة الاستقطاب الدولي بين نظامين في الشرق والغرب، تزداد الآراء المرجحة لتراجع هيمنة الاقتصاد الأميركي ومن ثم عملته خاصة، بما جعل زانغ يانلينغ، نائبة الرئيس التنفيذي السابقة لبنك الصين، تقول لمستمعيها في محاضرة، أشارت إليها صحيفة «الفاينانشيال تايمز» في تحقيق عن مستقبل الدولار الشهر الماضي، إن نوعية العقوبات الأخيرة أثّرت على مصداقية الدولار في الأجل الطويل، وتبشر مستمعيها بالبزوغ الدولي للعملة الصينية اليوان وبأن «الصين ستساعد العالم في التخلص من الهيمنة الدولارية أقرب من المتوقع». أي إنه بعد عهد من «الدولرة» قد يأتي عهد «اليوننة»، نسبةً إلى اليوان!
عادةً ما يستمر وصف الترتيبات النقدية والمالية المعمول بها بأنها تخدم المتعاملين بها والمستفيدين منها على نحو جيد، حتى يتم استبدالها! فتحل محلها ترتيبات جديدة تتوافق مع المستجدات في عالم شديد التغير.

د. محمود محيي الدين

لا مبرر للذعر.. بعض الاستراتيجيين يعطون أسبابًا للبقاء في سوق الأسهم رغم التراجعات الأخيرة

 

عانت الأسهم العالمية من أسبوع مليء بالخسائر، وعام صعب حتى الآن، لكن بعض الاستراتيجيين يعتقدون أن عمليات البيع الأخيرة من غير المرجح أن تمهد الطريق لاستسلام السوق.

أنهى مؤشر S&P 500 تداولات يوم الاثنين الماضي منخفضًا بأكثر من 16% منذ بداية العام، وما يقرب من 12% في الربع الثاني وحده.

كما انخفض مؤشر Stoxx 600 لعموم أوروبا بأكثر من 13% على مدار العام بحلول ظهر يوم الثلاثاء، وأغلق مؤشر MSCI Asia Ex-Japan تداول يوم الثلاثاء منخفضًا بأكثر من 16% منذ بداية 2022.

كان المستثمرون يبتعدون عن الأصول الخطرة بسبب عدة عامل، بما في ذلك التضخم المرتفع باستمرار، وتباطؤ النمو الاقتصادي، والحرب في أوكرانيا، وصدمات العرض من الصين، بالإضافة إلى ذلك، احتمالات ارتفاع أسعار الفائدة من البنوك المركزية التي تتطلع إلى كبح جماح ارتفاع الأسعار.

ومع ذلك، قال الخبراء الاستراتيجيون لشبكة CNBC يوم الثلاثاء أنه لا تزال هناك فرص للمستثمرين لتوليد عوائد، على الرغم من أنهم قد يحتاجون إلى أن يكونوا أكثر انتقائية.

قال فهد كمال، كبير مسؤولي الاستثمار في Kleinwort Hambros لشبكة CNBC “من الواضح أن هناك خوفًا كبيرًا في الأسواق، وهناك قدر هائل من التقلبات، لا أعتقد أننا وصلنا إلى مستويات كاملة من الاستسلام للسوق الهابط حتى الآن”.

وأضاف كمال، بأن النظام الاقتصادي لا يزال جذابًا بشكل معقول للمستثمرين على المدى الطويل، حيث لم يتوقع معظم الاقتصاديين حدوث ركود بعد، لكنه أقر بأن تقييمات الأسهم لا تزال غير رخيصة.

كان للبنوك المركزية تأثير كبير على اتجاه السوق منذ بداية العام، حيث قام الفدرالي الأميركي وبنك إنكلترا برفع أسعار الفائدة وبدأوا في تشديد ميزانياتهم العمومية مع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوياته منذ عدة عقود.

ولم يبدأ البنك المركزي الأوروبي بعد دورة التشديد، لكنه أكد انتهاء برنامج شراء الأصول في الربع الثالث، مما يمهد الطريق لارتفاع تكلفة الاقتراض.

وقالت مونيكا ديفيند، رئيسة معهد أموندي لشبكة CNBC يوم الثلاثاء، إنه طالما استمرت معدل الفائدة والتضخم في الارتفاع، فإن الأصول الخطرة ستستمر في المعاناة بالطريقة التي كانت عليها حتى الآن في عام 2022.

ومثل كمال، لم تتوقع ديفيند هجرة جماعية للمستثمرين من أسواق الأسهم، مما يشير إلى أن العديد من المستثمرين سيحرصون على العودة إلى السوق بمجرد أن يهدأ التقلب.

خلف الاضطرابات في أسواق الأسهم، ارتفاع الدولار كملاذ آمن، مما يدل على انتشار المشاعر الهبوطية بشكل متزايد في الأسابيع الأخيرة.

واقترح الخبراء الاستراتيجيون في HSBC في مذكرة يوم الثلاثاء، أن هناك مجالًا لارتفاع حاد في الأصول ذات المخاطر وسندات السوق المتقدمة إذا تغيرت المعطيات الحالية.

وأضاف HSBC إلى أن هذا يشير إلى أنه بعد انتعاش قصير الأجل الذي رأيناه في مارس، سيكون من الصعب عكس المسار الهبوطي دون بعض الدعم الأساسي الجديد من الاقتصاد.